أوروبا… العقل هو الدواء
عبد الرحمن شلقم
العنف عقيدة أبدية، تطفو على سطح زمن وتغفو في أعماق أزمان أخر.
أينما وجد الإنسان كان العقل، وفيه تنبت غابات الحقائق والأحلام والأوهام، القوة والضعف، الرحمة والعنف.
العنف الذي نراه يضرب في بقاع مختلفة من الأرض، تتباين ثقافات شعوبها، وأديانها وأنماط حياتها، هو منتج بشري منذ فجر التاريخ وما نراه منه اليوم لا يختلف عما كان منه على مر العصور إلا في الوسائل ورحاب انتشار أخباره بحكم وسائل المواصلات والاتصال. مع كل تطور يحققه الإنسان تظهر أعراض جديدة على قسمات شخصيته وصنوف أفعاله وسلوكه. سنة 1914 اشتعلت الحرب العالمية الأولى الكبرى إثر تغييرات سياسية أوروبية، شملت الأرض والناس. وكذلك الحرب العالمية الثانية سنة 1939.. كلتاهما كانتا عنفاً بشرياً وإن كان رسمياً بفعل دول لها أعلامها وأناشيدها الوطنية، وجيوشها النظامية التي يتقدمها جنرالات أثقلت أكتافهم الرتب والنياشين.
سنة 1968، استيقظ العالم الغربي على حركة شبابية أوروبية غاضبة رافضة. انطلقت من فرنسا منبع الثورة الكبرى في القرن قبل الماضي. انسابت مظاهرات الشباب إلى مدن أوروبية كثيرة بسرعة غير متوقعة. كان السؤال في داخل فرنسا وخارجها، ماذا يريد هذا الشباب الغاضب؟ تسابقت وسائل الإعلام الأوروبية إلى تحليل دوافع تلك الاندفاعة الغاضبة التي شكلت حركة تمرد سلمية عارمة تجتاح أوروبا الغربية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية. لم يغب الكتّاب والمفكرون عن الملاحقة اليومية لذلك الحدث بالتفسير والتحليل وتقديم الأفكار والبرامج الكفيلة بتقديم وصفات سياسية وفكرية وبرامج متنوعة لمعالجة دوافع تلك الهبة الغاضبة. من بين التحليلات التي قدمها بعض المفكرين هي: أن الشباب الأوروبي الذي وعى على أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، رأى أنه يعيش في متحف سياسي واجتماعي وثقافي لم يشارك في بنائه وإنتاج ما يحتويه. جيل لا ترهقه الحياة اليومية في العمل كي يحصل على قوته. وقت الفراغ والبطالة وتحسن مستوى الحياة واتساع مساحة الحرية وقوة الرأي العام عبر وسائل الإعلام الحديثة وتأثيرها، خلق شخصية أوروبية غربية من نمط جديد.
من الحلول المقترحة التي شارك فيها علماء الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد، توسيع وتنشيط الحركات الرياضية لامتصاص جهد الشباب بممارسة الرياضة البدنية جسدياً، وجعلها محوراً جاذباً للاهتمام الفائض من عنفوان الشباب. وطرح بعض السياسيين برامج قصيرة أو بعيدة المدى على المستوى القطري والقاري.
الفكر اليساري كان لا يزال يمتلك بعض اللياقة والقوة الجاذبة للشباب، وشكل ذلك ضاغطاً إضافياً على حلقات التفكير السياسي والاجتماعي في عدد من العواصم الأوروبية. تحول مقترح تفعيل الرياضة إلى برنامج عامل، ضخت الأموال في المشروعات الرياضية وعلى رأسها كرة القدم التي تحولت بعد زمن ليس بالطويل إلى صناعة ضخمة حتى رأينا المليارات تركض في مباراة واحدة فوق المستطيل الأخضر، تشد إليها مئات الملايين من المشاهدين في الملاعب وعبر الشاشات، ويتدافع وراءها أعداد لا تحصى من المراهنين على نتائجها. ومن الطرائف التي تدعو إلى الابتسام والاهتمام أيضاً أن ظاهرة العنف بين المشجعين هناك من رأى فيها ظاهرة إيجابية تعبر عن أسلوب لتفريغ العنف المكبوت عند الشباب، يبعدهم عن ممارسة العنف الدموي الذي تحركه دوافع سياسية أو آيديولوجية. وقد عبر عن هذا الرأي عدد من الكتّاب البريطانيين الذين اعترضوا على المبالغة في قمع من عُرفوا بـ(الهوليغانز) الإنجليز وهم المشجعون المتطرفون للفرق الإنجليزية.
هدأت الاندفاعة الشبابية الأوروبية الغربية الغاضبة المسالمة، لكن أوروبا بعد سنوات واجهت موجة عنف إرهابية دامية.
ظهرت مجموعة «العمل المباشر» (لاكسيون ديركت)، في فرنسا، في أوائل سبعينات القرن الماضي ضمت عناصر من إسبانيا وفرنسا، لها خلفية شيوعية، هاجمت مؤسسات حكومية ومصارف، قتلت شخصيات عامة ورجال أعمال، تسربت الحركة بأفكارها وعناصرها إلى عدد من الدول الأوروبية. كان زعيمها جان مارك رولان، اعتقل سنة 1974 في جريمة عادية ثم أعيد اعتقاله بعد ذلك زعيماً وفاعلاً في المنظمة الإرهابية.
كان لألمانيا الاتحادية نصيبها من موسم الدم، ظهرت مجموعة الجيش الأحمر سنة 1970. حملت اسم اثنين من مؤسسيها أندرياس بادر وأولريكي ماري ماينهوف (البادر ماينهوف). قامت بكثير من العمليات الإرهابية. قتلت أفراداً من الشرطة واعتدت على ثكنات عسكرية. لم تغب الأفكار اليسارية الشيوعية عنها. الهدف تغيير بنية المجتمع التابع للإمبريالية ورفض البرنامج السياسي الألماني الغربي والمكونات السياسية التي تقوده. النفس النازي كان يفوح من بين نغمات الخطاب التعبوي للحركة.
إيطاليا، لم تغب عن هذه الحرب، مثلما لم تغب عن الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين خاضتهما مع وضد الدولتين التي يرفع أبناؤهما اليوم راية الدم في وجه بني الوطن هذه المرة.
الألوية الحمراء… حركة تبنت الكفاح المسلح، تهدف إلى زعزعة الاستقرار في إيطاليا من أجل تخليق حالة تمرد شعبي تقود إلى تغيير مسار السياسة الإيطالية الموالية للغرب. ومن بين أهدافها خروج إيطاليا من حلف الناتو. قامت بأعمال تخريب وسطو على البنوك. كانت القوى السياسية الفاعلة في إيطاليا تخوض حواراً واسعاً وشاملاً حول إعادة ترتيب المشهد السياسي في البلاد لتجاوز حالة عدم الاستقرار الذي أدى إلى تساقط الحكومات. بدأ الحزب الشيوعي الإيطالي في مراجعة علاقاته بالحزب الشيوعي السوفياتي وأتباعه في أوروبا الشرقية. قام برلينجوير الزعيم الكاريزمي للحزب الشيوعي الإيطالي أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية برفع شعار (الشيوعية الأوروبية) الأكثر ليبرالية، ورفض – الدوغما الماركسية – وشرع في حوار مع الدو مورو زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي تحت عنوان عرف باسم المساومة التاريخية، يدعم الحزب الشيوعي على أساسها الحكومة دون أن يشارك فيها. الألوية الحمراء الشيوعية القتالية المتشددة اعتبرت ذلك خطيئة لا يمحوها إلا الدم. خطفت الدو مورو يوم 16 أبريل (نيسان) سنة 1978 للمساومة على الإفراج عن بعض سجنائها، وأصدرت الألوية الحكم بإعدامه.
سنوات الجمر الأحمر في أوروبا بلونها اليساري الشيوعي وطريق التطرف الدامي، كانت دافعاً للسياسيين والمفكرين على حد سواء لمراجعة الأفكار والسياسات ومناهج التعليم، ومنظومات المجتمع بكل أطيافها.
هذه المرة، لم تكن كرة القدم وهياج الهوليغانز في الملاعب وخارجها حقنة كافية شافية، صارت الأخطار أكبر، لا بد من شحنات دواء كبيرة. من بين ما تضمنته «الروشيتة» توسيع دوائر النشاط للشعوب الأوروبية، ورسم صورة أكبر للأمل والحلم (أوروبا الموحدة). ولنقل بدقة أكبر، إن صرخات العنف سرعت ضمن عوامل أخرى يوم ولادة أوروبا الجديدة.
العنف حلقة في سلاسل الحياة، والعقل. العلم قادر أن يجد الترياق الشافي لكل مرض. السرطان والشلل الرعاش لم يستسلم لهما العلماء.. آلاف منهم يسهرون دون كلل من أجل هزيمته.
العنف.. تشوه في العقل، يجعل الإنسان يتلذذ بقتل توأمه. لكن علاجه ليس بمباراة كرة قدم أو مسابقة ملكة جمال للعالم فقط.