أوروبا الأنثى
عبد الرحمن شلقم
أوروبا القارة القديمة التي لا يعلوها شيبُ الزمان. أم الاكتشافات وينبوع السيطرة والاختراعات، من القرون الوسطى إلى النهضة إلى التنوير، صانعة التغيير. بعد الحروب والدماء التي أسالها العتاة، اليوم تزحف على قيادتها قوة أخرى، المرأة. ألمانيا بعد الفوهرر أدولف هتلر الرجل العنيد المقاتل بلا حدود، ومن حوله الجنرالات بأحذية الجلد الصلبة، والنياشين تتدلَّى على الصدور تقودها اليوم سيدة مكتنزة تدفع أوروبا أمامها أحياناً وتجرُّها وراءها في الملمات. أنجيلا ميركل التي ترفع صوتها ويدها أمام الرئيس الأميركي وتمدُّ يدَها فوق الخريطة السياسية والاقتصادية الأوروبية، وتحدد المسارات للقارة الأوروبية في خضم الاختلاف العسكري تحت عنوان حلف الناتو. أوروبا تعيد تكوين ذاتها سياسيا بخطاب لسانه قوة مبتكرة في عصر جديد ومنظور جديد ناعم تعزفه المرأة من فوق هامات كراسي الحكم. الرحلة في هذا العقد من القرن الحادي والعشرين في أوروبا أرجامه جمال العقل ومعزوفات الخلق.
النساء يعتلين كراسي القرار في المركز والأطراف. السيدة أوسولافون ديرلاين رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، أي رئيسة أوروبا الاتحادية، والمرأة الأقوى في أوروبا من مكتبها في بروكسل.
السيدة بريجيت برييرلاين المستشارة الاتحادية في النمسا أم الحكمة وقرار الحسم الهادئ في دولة كانت عرين التشدد الذي ولد هتلر. وكم ذا بالنمسا من الخوارق والفوارق. تزحف النساء على مقاعد الحكم في قارة الجمال والديمقراطية والحياة، وتسطع على عرش السلطة الديمقراطية في الدنمارك الأربعينية الجميلة ميتيفريدريكسن رئيسة للوزراء، وليس بعيداً عنها ترتفع على كرسي الحكم كريست كارجوليد الأربعينية رئيسة لجمهورية إستونيا. الرحلة طويلة ولذيذة مع كوكبة الزمان الجديدة في الدنيا القديمة التي تبدع نفسها للزمان وبه. في كرواتيا وفي سلوفاكيا وفي صربيا وآيسلندا وبلجيكا والنرويج تتولى النساء مقاليد الحكم بقرار من شعوبها عبر انتخابات، لا تزوير ولا مال يلعبان بالضمير الوطني فيها. السؤال الكبير… لماذا؟
أغلب هذه الدول يغلب فيها المذهب البروتستانتي المسيحي، وتبنَّت منهجاً تعليمياً مبتكراً محوره قيمة الإنسان التي تنطلق من حريته الشاملة في التفكير والإبداع والبحث العلمي. في هذه الدول غير الكاثوليكية، الإنسان هو الأساس لكل شيء، والتسامح الذي يجعل من العقل إشارات المرور في طريق البشر، فلا تقاطع ولا تصادم بل تكامل الجهد العقلي والعضلي. لماذا المرأة تقود الأمة؟ النسيج الاجتماعي في المجتمع الصناعي له خيوط من غزل الشعب، عقل يخترع وعضل يحول الاختراعات إلى آلات خادمة للناس يحركونها بأيديهم لتصنع حياتهم الجديدة. المرأة السياسية هي سيدة البيت الكبير، الوطن. الجميع أولادها، لهم التربية والتعليم والرعاية. لا مكان للعنف أو الاستغلال والمراوغة والتدليس. في هذه الدول الفساد لا يجد مساربَ في الظلام إلى غرف نوم الضمير، حيث أسرة الأولاد الصغار جانب مرقد الأب والأم التي لا تغفل عن سرير الطفل.
الوطن كله بيت العائلة المحببة التي تعطيه الأم كل شيء، ولا تأخذ منه إلا أنفاس الحب والمودة.
أوروبا الجديدة أنثى وليست مؤنثة، كيف؟ الأصل هو الحقيقة التي تعود وإن غابت. أوروبا النهضة والتنوير والثورة الصناعية مولود من صلب صيرورة الحياة التي أبدعها سن الرشد الإنساني في الفلسفة والاختراعات ووقدات الفلسفة وتجليات التفكير. طافت عليها دفقات القوة وجنحت إلى الحروب والاستعمار، لكن النطفة كانت هناك في رحم الوجود الإنساني الذي لا يتوقف عن الدفع المتجدد. حلقات تلد عصور الحياة المبدعة، وكانت المرأة سيدة الرحم السحري الذي يلد مقومات وقوم زمانه. الاندفاع نحو رفع المرأة إلى كرسي القرار ليس وليد عاصفة مزاج سادٍ، لكنه حليب الرؤية الإنسانية العقلانية، مثلما كان عصر النهضة ومن بعده التنوير، نتاج عصارات زمن خاص صنعته العقول استجابة لطموح الحلم الإنساني الممتد في مسار طويل صارع سطوة الطبيعة بقوة التفكير والإبداع والاختراع.
هل هي الحلقة الأوروبية الثالثة بعد النهضة والتنوير؟ حلقة تسليم المقاليد للسيدات لقفل أبواب القوة والسلاح والعنف، وفتح الطريق نحو رحاب الحياة الجديدة التي تصنع التقدم بحنان الأمومة والعقل الناعم، وتقفل أبواب العنف الذي ساح على الأرض في زمان مضى، ولم يزل يلوح بل يضرب بيد الجهل والعنصرية والتلوث، والفوارق الاجتماعية التي تكسر مكونات الكيانات الاجتماعية في كثير من بقاع الأرض.
ليس كل ما في الأرض نبتاً عشوائياً ولا كل ما في العقول، بل هو تكوين من صيرورة الحياة الممتدة عبر زمانات لونها عقل الإنسان وعضلات جهده. هذا ما يقوله لنا المشهد السياسي في أوروبا، بل في دول أخرى في آسيا وأميركا اللاتينية، ولكن للصورة صوت وألوان في القارة الأوروبية. هذا الزحف والزخم الأنثوي نحو السلطة في عديد من الدول الأوروبية، هو بارق لعنوان مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة يتعدى مكان القرار، ليكتب معنى جديداً يزيل جدار التابو الموروث منذ قرون عن المرأة، ويبدع مفاهيم جديدة ليست للسلطة بوصفها عصاة للقوة، بل للقدرات على تنسم مكان القرار.
قال المتنبي:
فما التأنيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ
ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
ولو علم الباكستانيون يوم دفنوا بنازير بوتو من قتلوا، لبكوا قبل إطلاق النار عليها.