أهل المبدع
مهدي التمامي
يقول ابن حزم: “إن أزهد الناس في المثقف هم أهله، إن أجاد قالوا: سارق مغير منتحل مدع، وإن توسط قالوا: غثّ بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا؟ ومتى تعلم؟ وفي أي زمان قرأ؟
وهنا قد نعني بأهل المبدع (كافة السلطات الثقافية، مؤسسات، وأفراد)، فالحديث عن مبدع لا يدعي امتلاك الحقيقة وحده، لكنه لا ينساق وراء مقولات جاهزة، على الرغم من أن كل شيء قد كتب قبله تقريبًا.
وبعيدًا عن الجدلية التي تهجس بسؤال البدايات الذي يسيل من بين أصابعنا كلما حاولنا معرفة النصوص الأولى، فليس ثمة بداية! إنما تكمن قيمة كل مبدع في طريقة توظيف ما يتناوله من الكتابات السابقة عليه، وما يمكن أن يضيفه من إبداع قادر على تجاوز ما أخذه وإغنائه، وبهذا يستطيع المبدع تجاوز راهنيته. وهنا أيضاً تكمن قدرته على استشراف المستقبل، من خلال سيرورة البداية والنهاية، والعكس… قد لا يعلم أهل المبدع أن الإبداع فعل مقاومة لمشاعر الضياع والتشيؤ الذي يعيشه المبدع في صراعه اليومي على عدة جبهات.
ولمّا كان المبدع يقدم، من خلال ما يكتب، عرضًا شاملاً لأجوائه السيكولوجية، فلن يعدم “أهل المبدع” من مراجعة ذلك العرض وتطبيق إحدى عقد النفس الكثيرة عليه وكيل الاتهامات له بكل مجانية وقحة، لا لشيء سوى أنه خالف أهواءهم.
قد يكون هذا الكلام بعيدًا عن تمنيات مسيرتنا التفاؤلية هذه الأيام، لكن من الضرورة بمكان أن نعترف بأن نشوء علاقة “إجبارية الاتجاه” بين الثقافة السائدة “أهل المبدع” وبين المثقف “النخبوي” الذي يمثّل أعلى درجات الحساسية على مستوى أفراد هذا المجتمع الطامح للإصلاح والتجديد، فإنها ستكون علاقة تدميرية لا محالة، أي علاقة لا يوجد فيها حوار ولا حق اختلاف ولا اعتراف. لأن منظومة “أهل المبدع” الثقافية لا تقوم على أسس صحيحة غالبًا “ولا معنى للثقافة الحقيقية إن لم تقترن بحرية الآخرين” كما يقول “سارتر”.
وبهذا تتحول إلى علاقة رفض أساسًا، لأن أقصى ما يمكن أن يصل إليه “أهل المبدع” من اتفاق مع المبدع لا يعدو عن كونه تواصلاً متسامحًا، بينما المبدع الحقيقي يحتاج إلى المساواة بدلاً عن التسامح. لأن التسامح الثقافي هو نوع من الطبقية الثقافية، فإذا تسامح “أهل المبدع” مع مبدعهم فمعنى ذلك أن الحقيقة ملكهم، مع السماح له بالتعبير عن همومه ومآسيه. وحتى نصل إلى هذه المساواة، فما على “أهل المبدع” إلا أن يثقوا بموهبة مبدعهم وإمكانياته التي قد تضيف شيئًا إلى تلك الحقيقة الثابتة المغلولة بالوثوقية والبلادة، فالمبدع ليس عاجزًا عن الإضافة، لأن الإبداع، في معناه الجوهري، ما هو إلا تجربة ذاتية؛ يتم في حدود هذه التجربة التي لا تُلزم إلا صاحبها “المؤهل بالكفاءة”، شريطة أن تكون له حرية الاختيار المطلقة…!