أهل الكهف في مجلس الأمن
سالم العوكلي
تابعتُ جلسة مجلس الأمن الأخيرة فيما يخصّ الشأن الليبي ، ولولا ظهور كلمة (مباشر) أعلى الشاشة لراودني خاطر أنها جلسة سابقة مسجلة. مندوبو الدول في مجلس الأمن (سواء الدول التي لها علاقة مباشرة بما يحدث في ليبيا، أو الدول التي لا علاقة لها. سواء الدول التي تعرف بعض الشيء حول الأزمة الليبية، أو الدول التي لا تعرف شيئا تقريبا)، تحدّثوا بكلام إنشائي ينطبق على جميع أزمات العالم، وعلى مر التاريخ، كأنّ مجموعة من التلاميذ النجباء يُسمّعون نصا حفظوه عن ظهر قلب . الجميع يشكر المندوب غسان سلامة عن إحاطته الدقيقة، والجميع يقول كلاما كُتب مسبقا، لا علاقة له بهذه الإحاطة الدقيقة، وفي نهاية كل إدلاء من قبل كل مندوب يدعو، كما تملي عليه تبرئة ذمته، إلى الحوار وإلى وقف الأعمال العنيفة، والركون إلى الحلّ السياسي. (الكلام نفسه الذي يقال حول أزمة سوريا أو اليمن أو العراق والصومال سابقا أو فترة مذابح رواندا)، وعبر سنوات، وكل الجلسات التي عقدت بشأن ليبيا تتكرر نفس الروشتة المضحكة التي لا تشبه سوى روشتة طبيب باكستاني جديد في مستوصف قروي يعالج أناسا لا يجيد لغتهم ولا يعرف ممّ يشتكون أو ما الألم الذي يعتريهم.
يدلي الجميع بخُطب منمقة تنطبق على أزمات العالم، من حروب سبارطا إلى ما يتعرض له مسلمو الروهينغا الآن، ولا عجب، فهم موظفون من قبل خارجيات دولهم، يتقاضون مرتباتهم مقابل مثل هذا الكلام الذي لا يغني ولا يسمن، ثم يعودون إلى حياتهم اليومية ناسين تماما ليبيا، أو ناسين أيضا ما قالوه، حتى يأتي انعقاد آخر ويذاكرون ليلةً قبل الجلسة ويُسمّعون ما حفظوه أمام رئيس الجلسة الذي يشكرهم جميعا.
أفترض أنني ليبي في قلب الأزمة، وأفترض أنّ لي علاقة بالثقافة، وبمتغيرات هذا القطر من عقود متتالية، أتابع شؤونه ولم أتوقف عن الكتابة حوله وعنه، ومن واقع هذا الافتراض يجوز لي أن أقول إنَّ ما قيل من قبل المندوبين في جلسة مجلس الأمن بشأن ليبيا لا علاقة له بحقيقة ما يحدث هنا، تحليلا وتشخيصا واقتراح مخارج، فجميعهم يحدسون بأزمة تقاس على كل أزمة مرت وستمر بدول مثل ليبيا أو ليست مثلها، وجميعا مسمّرون أمام حوائط شاشات تقول كلّ شيء عدا الحقائق.
هذا الاعتماد على الحواس، واستخدام الحدس التاريخي كقالب يوضع فيه الكلام، يذكّرني بجزئية وردت في كتاب “تاريخ موجز للفلسفة” للمؤلف: نايغل وربروتن ــ ترجمة: نجيب الحصادي. تحت الطبع .والذي وصلتني نسخة من مخطوطه، باعتبار علاقتي الشخصية بمترجمه. في الفصل الأول، تحت عنوان: “الرجل الذي كان يطرح الأسئلة ـ سقراط وأفلاطون” ترد جزئية مهمّة تتعلق بمهمة الفلاسفة الذي يكتشفون طبيعة الواقع عبر التفكر بدلا من التعويل على الحواس، ويستخدم أفلاطون مثالا دالا للدفاع عن هذا الموقف عبر تجربة الكهف : “في هذا الكهف المتخيل ثمة أناس مقيدون في مواجهة حائط. كان في وسعهم أن يروا أمامهم ظلالا تتحرك حسبوا أنها أشياء حقيقية. لكنها لم تكن كذلك. لقد كان ما يرونه ظلالا سببتها أشياء ماثلة أمام نار أُوقدت خلفهم. وقد أمضوا كل حيواتهم يحسبون أن الظلال الساقطة على الحائط هي العالم الواقعي. بعد ذلك يتحرّر أحدهم من قيوده ويلتفت صوب النار. في البداية كانت عيناه مضببتين، غير أنه سرعان ما بدأ يرى موضعه. تحسس طريقه خارج الكهف، وفي النهاية استطاع النظر إلى الشمس. وحين عاد إلى الكهف، لم يصدق أحد ما أخبر به حول العالم في الخارج. الشخص الذي تحرر من قيده شبيه بالفيلسوف. إنه يرى خلف المظاهر. عموم الناس لا يدركون الكثير عن الواقع لأنهم راضون بالنظر إلى ما يوجد أمامهم، بدلا من التفكر بعمق فيه. غير أن المظاهر خادعة، فما يرونه ظلال، وليس واقعا.”.
ولم أجد مثالا أكثر دلالة من ذلك، حيال ما سمعته في اجتماع مجلس الأمن الأخير بشأن الملف الليبي، فالجميع كان كأنّه مقيد في مواجهة حائط (هذا الحائط قد يكون حائط موقع تواصل افتراضي، أو شاشات فضائيات في الواقع لا مراسلون لها على الأرض، أو حائط افتراضي مقاس تاريخيا على أزمات مماثلة أو غير مماثلة) ولا يرى على هذا الحائط المقيد أمامه غير ظلال النار التي تحرق كيانا اسمه ليبيا، “كان في وسعهم أن يروا أمامهم ظلالا تتحرك حسبوا أنها أشياء حقيقية”.
اعتبر أحدهم الذي تحرّر من قيده، والتفت صوب النار ـ الذي يشبهه أفلاطون بالفيلسوف ــ هو مبعوث الأمم المتحدة، د. غسان سلامة، الذي قدّم إحاطة شاملة ودقيقة لأنه رأى النار في ليبيا وشم حرائقها عن كثب،” وكانت عيناه مضببتين في البداية، غير أنّه سرعان ما بدأ يرى موضعه، لكنّه حين عاد إلى أهل الكهف المسمّرين قبالة الحائط ليخبرهم بما يحدث، لم يصدقوه أو بالأحرى لم ينصتوا له، والدليل أنهم كرروا كلماتهم في كل الجلسات السابقة، رغم المتغيرات التي قدمتها الإحاطة الجديدة.
مازالوا يدافعون عن اتفاق الصخيرات الذي لم يعد له، إطلاقاً، وجود على أرض الواقع، وما زال أهل الكهف يتحدثون عن دعم السراج وحكومته، رغم أن السراج نفسه لا يدعم نفسه، ولا وجود لشيء اسمه حكومة الوفاق على الأرض، ومازالوا يتحدثون عن حقوق الإنسان في مخيمات الهجرة رغم أن دول بعضهم تعاملت مباشرة مع المهربين الذين ينتهكون حقوق المهاجرين، وزودتهم حتى برشاوى بالملايين من أجل الحدّ من الهجرة والاحتفاظ بالمهاجرين في المخيمات التي يدينون فيها انتهاك حقوق الإنسان. البعض تطرق للحديث عن مدينتي درنة وكأنه يتحدث عن قرية من قرى الروهينجا، أو كأنّه حدث له التباس بين درنة ودرعة. البعض تحدّث عن ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها الذي يفصلنا عنه أقل من ثلاثة شهور، وهو لا يعرف أن الانتخابات في معظم أجزاء ليبيا المجزأة لا يمكن أن تتم إلا بحماية ميليشيات تعتقد، بل تؤمن أن الانتخابات هي الخطر الوحيد على وجودها وإخراجها من المشهد.
والبعض تحدث عن حفظ الأمن في العاصمة طرابلس التي تحكمها أمنيا عصابات خارجة عن القانون، بعضها مسؤول عن تهريب المهاجرين وخطف ممثلي منظمة الأمم المتحدة، بعضها يحمل أيديولوجيا دينية إرهابية، وبعضها يقتات من تهريب النفط قوت الليبيين، تحدثوا عنها كقوى أمنية شرعية تحكم العاصمة، وأدانوا أيّ قوة تعتدي عليهم، حتى وإن كانت جيشا نظاميا.
وفي الحصيلة كان غسان في وادٍ وهم في كهف مسمّرين أمام جدار لا يرون عليه سوى ظلال النار التي تأكل الأخضر واليابس في مكان ماعاد فيه سوى “الكبير” المتربع على عرش البنك المركزي، وشعب في الطوابير أمام المصارف ينتظر الفتات الذي يتصدق به الكبير.
لا يحس النار إلّا واطيها، وعلى الليبيين أن يجدوا طريقة لحلّ مشاكلهم فلا أحد سيحسّ بهم . ثمّة رجل عربي اللسان والوجدان، يجيد لغتنا ويحس بآلامنا؛ لأنّه الوحيد الذي رأى النار هنا، هو، د. غسان سلامة الذي لا نشكك في رغبته الحقيقية في إنقاذ ليبيا. على كل الأطراف أن تلتفّ حوله، وتقدّم التنازلات ـ لأن التنازل في مثل هكذا أزمات ارتفاع إلى المسؤولية الأخلاقية والوطنية ــ مثلما فعلت تلك الأطراف مع بعثة الأمم المتحدة الأولى إبان الاستقلال، لتصل بذلك الكيان المرهق من الحروب والجوع والأوبئة إلى برّ الأمان وتبدأ تأسيس الدولة التي كتب دستورها قبل الاستقلال، فانطلقت كالمارد بفضل أول بعثة أممية تؤسس لدولة جديدة.