أدب السجن
(محاولة في بلورة المفهوم)
عمر أبو القاسم الككلي
صار من الشائع في العقود الثلاثة الأخيرة، على الأقل، تداول مصطلح “أدب السجون” بالجمع. لكنني أفضل عليه مصطلح “أدب السجن” بالمفرد. ذلك أنه مثلما يمكن إيجاد مظاهر وخصائص فارقة (كي لا أقول جامعة) لأدب الحرب وأدب الصحراء والبحر، توجد مظاهر وخصائص لأدب السجن كحالة، رغم تعدد السجون وتنوعها وتفاوت حدة “سجنيتها” إذا جاز التعبير. بل إن هناك من يرى أن أدب السجن يحوز تجانسا أكثر مما تحوزه أنواع الأدب الأخرى. وفي هذا الصدد تقول “شييلا روبرتس” صاحبة كتاب “أدب السجن في جنوب أفريقيا”: “[رغم] تغييرات الشكل والأسلوب و[تفاوت] الحقب و[تنوع] الموقع الجغرافي […] فإننا، أعتقد، ندرك [في أدب السجن] تجانسا أكثر مما تحوزه أنواع الأدب الأخرى”1
هناك أيضا مصطلح “أدبيات السجن” أو “أدبيات السجون” وهو أكثر عمومية، إذ تعني كلمة أدبيات الكتابات غير المتعلقة بالعلوم الطبيعية والعلوم البحتة، في حين يقتصر مصطلح “أدب السجن” على المفهوم المتداول للأدب. وهناك من يطلق عليه الأدب الاعتقالي.
لكن هذه الورقة لا تبحث في مظاهر أدب السجن وخصائصه، بل تحاول أن تناقش طبيعة المفهوم. ذلك أنه لا يوجد، في الثقافة العربية، حتى الآن، تعريف محدد لهذا المصطلح.
فماذا نقصد حين نقول “أدب السجن” وماذا نفهم حين نسمعه؟
أعتقد أن قصدنا، حين نتلفظ بهذا المصطلح، أو فهمنا حين نتلقاه، ينصرفان إلى الأدب المتعلق بمسألة ما يسمى بسجناء الرأي، أو سجناء الضمير، أو سجناء الوعي، وجميعها ترجمة للمصطلح الإنجليزي Prisoners of Conscious. إلا أن المصطلح الأكثر تداولا في المنطقة العربية هو مصطلح “السجناء السياسيون” أو “السجن السياسي”.
وهذا يعني أن أدب السجن لا “يزدهر” إلا حيثما وجد القمع والاستبداد السياسي الذي يطأ على أرواح وضمائر المثقفين والمعنيين بالشأن العام من أصحاب المواقف الفكرية والسياسية والاجتماعية المختلفة أو المتعارضة مع ما يتبناه نظام سياسي استبدادي معين في هذه المجالات، فيمعن النظام في مصادرة حرية الرأي وتجريمها ويتم التضييق على أصحاب الرأي المختلف والمعارض ومطاردتهم وإيداعهم السجن. وأدب السجن، من جانب آخر، هو فعل من أفعال المقاومة، لأنه، من جهة، يندد بالقمع والتسلط ويفضحه، ومن جهة مقابلة وفي مواجهة ذلك، يكشف عن نأمات الروح المقاومة وصلابتها وعنادها ويحتفي بها ويعلي من شأنها. فهو شهادة على فعل القمع والنضال ضد هذا القمع. إنه الحصيلة الجدلية للصراع بين عنصرين متناقضين تماما، وهما القمع والمقاومة، إنه، باختصار، فرع من أدب المقاومة.
وعلى هذا الأساس يستبعد المصطلح من مجاله ما يكتبه سجناء الحق العام2 داخل السجن أو ما يكتب عنهم من قبل آخرين. كما أنه باستعماله كلمة “أدب” بدل “أدبيات” يستبعد، مثلما أسلفنا، الكتابات غير الأدبية3. وهو يستبعد أيضا ما يكتبه العسكريون الواقعون في الأسر. إلا أنني أرى أنه ينبغي أن يضم ما يكتبه سجناء حروب التحرير ضد المستعمر وضد الأنظمة المحلية الاستبدادية، ذلك أنهم يناضلون من أجل التحرر والحرية والديموقراطية، أي انطلاقا من موقف ورأي سياسيين، وما كانوا ليفعلوا ذلك لو لم يتم التعدي على حقوقهم الوطنية والإنسانية.
لكن تبقى هناك حاجة إلى تعريف أدب السجن من زاوية منتجيه.
فهل هو الأدب المكتوب من قبل سجناء الرأي أثناء وجودهم في السجن ويكون السجن موضوعه؟ وما يكتبونه عن السجن بعد خروجهم منه؟
هل يدخل فيه أيضا الأدب المكتوب عن معاناة سجناء الرأي حتى ولو لم يكن كاتبوه قد مروا بتجربة السجن؟.
وحتى بالنسبة إلى الأدب الذي يكتبه سجناء الرأي، هناك من يفرق بين “كتابة السجن”، أي الأدب الذي يكتب عن السجن داخل السجن، والكتابة “عن السجن”4، أي الأدب الذي يكتبه سجناء الرأي السابقون ويكون السجن موضوعه. لكن هذا التفريق تدقيقي قد يكون مهما في استجلاء بعض الفوارق التفصيلية الدقيقة المتعلقة بالظروف المحيطة بزمن فعل الكتابة، مثلا، ولكن كلا الكتابتين تدخلان في ما اصطلح على تسميته في أمريكا اللاتينية بـ “أدب الشهادة”5، Testimonio بالإسبانية و Testimony بالإنجليزية. لكن مشكلة هذا المصطلح أنه يقصر أدب السجن على تلك الكتابات التي تسجل خبرة شخصية بتجربة السجن. أي تشهد على المعاناة والواقع، مستبعدة الكتابة التخييلية.
إلا أن هذه المساهمة تميل إلى تعريف أدب السجن تعريفا واسعا بحيث يكون: كل أدب يتخذ من حياة السجن موضوعا له سواء كان كتابة شعرية أو سردية، تخييلية Fictional، أو غير تخييلية None-fictional، أو مسرحية، ينتجه السجناء السياسيون داخل السجن أو بعد خروجهم منه، وكذلك كل كتابة شعرية أو سردية تخييلية أو مسرحية يكتبها أدباء لم يمروا بتجربة السجن.
1- Sheila Roberts, South African Prison Literature
2- على سبيل المثال، القصاص الأمريكي الشهير أوهنري بدأ كتابة القصة في السجن أثناء قضاء محكوميته عن جريمة اختلاس حين كان موظفا في أحد المصارف.
3- المفكر الماركسي الإيطالي الشهير غرامشي كتب أهم نتاجه الفكري في السجن وعرف مجموع أعماله الفكرية هذه بـ “دفاتر السجن”. وكذلك المفكر الإسلامي المصري سيد قطب كتب كتابه المهم “في ظلال القرآن” داخل السجن.
4- محمد الفقيه صالح. سجنيات أو سوانح الكتابة في المابعد والمابين. في: عمر أبو القاسم الككلي، سجنيات، دار الفرجاني، طرابلس، 2012
5- Patrick Dove, The spoken animal: Politics, Language and history in Carlos Liscanos’ Truck of fools. https://www.ncsu.edu/project/acontracorriente/documents/DoveLiscano.pdf