كتَـــــاب الموقع

الحلم بأبي

عمر أبو القاسم الككلي

قبل أن تتجاوز سنوات عمري أصابع اليد الواحدة صرت أشعر أنني لست على وفاق مع أبي وأنه لا يمكنني فهمه والتفاهم معه!. وأنا هنا أقول أبي، وليس والدي، لأن المصطلح الثاني ينتمي إلى البيولوجيا، في حين ينتمي المصطلح الأول إلى الآنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، إلى ثقافة المجتمع، وبالنتيجة إلى السلطة. الوالد أصل.. معطي حياة وواهب وجود. لكن الأب سلطة قد تقيد الحياة وتحصر الوجود. تخنق الحرية.
لست أدري كيف استبطنتني نزعة التمرد منذ سنوات عمري الأولى. قبل أن أعرف اسم هذه النزعة وماهيتها. ربما من العنف وشظف المعاملة اللذين واجهني بهما أبي، واللذين لم أجد لهما مبررا حتى في حدود تفكيري في ذلك الوقت. وكلما تقدمت في العمر تقوت نزعة التمرد لديَّ واستُنفرتْ مشاعر السلطة وإجراءاتها القمعية لديه. وما زاد الشرخ اتساعا وجعل العلاقة غير قابلة للتصالح والترميم دخولي المدرسة. كان هو أميا وكنت أنا أتملص من عالمه وثقافته وأفقه باكتساب القدرة على القراءة والكتابة وتشرب معارف جديدة. فلم يكن هو يعرف اليابان ولا استراليا ولا الليبو والتحنو، ولا الفنيقيين والإغريق والهنود الحمر، ولا كان وأخواتها والمبتدأ والخبر ولا يستطيع أن يكتب موضوع إنشاء عن فصل الربيع… وكنت أنا أعرف الكثير غير هذا!. كان أحيانا يحتاجني لأقرأ له محتويات رسالة من رسائل العمل، وحين أقرأ له يقول لي:
لا!. مش مزبوط!.
وكأنه لم يكن يريد الاعتراف باكتسابي قدرة لا يحوزها هو. فأمد إليه الورقة قائلا:
اقرا بروحك!.
كنت قليل أدب، طبعا.
فاقم هذا الوضعَ دخولي المبكر عالم القراءة غير المدرسية، وبالذات قراءة الأدب الذي عمق إحساسي بالظلم وإعلائي من قيمة الحرية والانطلاق. نزعة التمرد هذه جعلتني أتحمس للشعر الحديث من أول ما تعرفت إليه، والتحرر الاجتماعي وتبني آخر صرعات اللباس المعبرة عن التمرد الاجتماعي، وإطالة الشعر. بالإجمال كل ما يثير غضب أبي ونفور المجتمع مني. وربما هي أيضا ما حدا بي إلى مناصرة حركات التحرر ومعاداة الاستعمار، باعتباره سلطة قامعة وظالمة.
“كان عندما يصفعني على وجهي بكفه العريض القوي يسقطني أرضا، وكنت سريعا ما أغالب نفسي وأنهض فيعاجلني بصفعة أخرى تسقطني من جديد، فأوعاود النهوض ويعاود الصفع، إلى أن يكف هو عن الضرب.
الآن أكتشف أن جزءا كبيرا من مشكلتي معه كان يكمن في محاولتي النهوض. مؤكد أنني لو مكثت ملقى على الأرض بعد سقوطي إثر الصفعة الأولى لكان تركني.”*.

آخر مرة ضربني فيها كان عمري حوالي ستة عشر!. حينها قلت له بحزم:
– ما عادش تضرب!.
الغريب في الأمر أنه، رغم قسوته وعناده وعنفه، لم يعد إلى ضربي بعدها مطلقا، مهما اختلفنا ومهما كان سلوكي لا يرضيه.
عندما اعتقلت كان عمري حوالي أربع وعشرين سنة. وكانت علاقتنا قد استقرت على حالة اللا سلم واللا حرب.
“عندما تحصل هو و بعض أفراد الأسرة على إذن لزيارتي لأول مرة بعد شهور من السجن فوجئت به يجلس منهكا ذابل الملامح دامع العينين. سبق أن رأيته باكيا في مناسبة أو اثنتين. لكن هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها يبكي من أجلي. بدت نظرته مستسلمة مرتبكة يمتزج فيها الانحراج من بكائه والرغبة في إخفائه بمشاعر التعاطف معي والإحساس بضرورة أن يظهر لي حزنه عليّ. فآلمني ما حدث له. لقد زج به في نوع جديد من المشاكل أبعد ما يكون عن فهمه، ولا حول له ولا حيلة في مواجهته”*.
” لا أعلم كيف كان وجهي يبدو و نحن خارجون من جلسة النطق بالحكم، التي لم يتح للجمهور العادي حضورها، مربوطين من أيدينا كل اثنين بالأصفاد مقادين إلى سيارة السجن، وإن كانت المسافة التي بيننا قد مكنته من أن يقرأ فيه شيئا، إلا انه سألني من بعيد متلهفا:
شنو صار؟.
رددت بسرعة:
مؤبد.
لم أشأ أن أتأكد من ردة فعله. لكنني لمحته، بزاوية عيني، يلطم، كأية ثكلى، مقدم وجهه بيديه وهو يتهاوى ببنائه الشامخ الذي لم يسبق له أن اهتز”*.
ذلك الرجل المعاند الصلب،الذي واجه بعزم لا يلين ظروف الحياة وصارع المصاعب، يهتز في أعماقه. ذلك الأب القاسي ينتبه في هذه المحنة إلى أنه كان مبالغا في محاولة فرض سلطته. “ستحكي لي أمي، وأكثر من قريب وقريبة، في أكثر من مناسبة، بعد خروجي [من السجن]، كيف أنه كان يجاهر بندمه على سوء معاملته لي وكيف أنه اكتشف، بعد فوات الأوان، أنه لم يقدرني حق قدري، ويتساءل ما إذا كنت سأسامحه”*. بدلا من أن أسعى أنا، حسب العرف وتقاليد الدين، إلى رضائه، كان هو نادما على أنه لم يسعَ إلى رضائي!. لقد هزت واقعة سجني كيانه “إن لم تكن قد قصمت ظهره. كانت مفاجأة كاسحة جعلته، فيما يبدو، يغير رأيه في ويشعر بندم شديد لأنه لم يكن يقدرني حق قدري. فشخص تخشاه الدولة بجلال قدرها وبما تملكه من قوة وعظمة وتدبر حيلا للتخلص منه، لا بد أن يكون شخصا عظيما خطير الشأن، وليس كما كان يراهه والإنسان الجاهل البسيط”**. أتصور أنه كان يفكر هكذا.
توفي قبل خروجي من السجن بثلاثة أيام.
لكن المشكلة مع أبي كان لها بعد آخر. فبداية من سنوات السجن وإلى أكثر من سبع عشرة سنة بعد وفاته وخروجي من السجن أخذ أبي يظهر في أحلامي. بشكل مسالم أحيانا، حيث يكون عاديا، إلا أنه أحيانا يكون يعرف القراءة والكتابة، بل ويؤلف!. وبذا لم أعد متميزا عنه. كأنه كان يتقرب مني أو يبطل تميزي!. وأحيانا يقتحم أحلامي بشكل يجعل الخلافات تنشب بيننا ويتحول الحلم إلى كابوس!
أرهقني ذلك كثيرا وأبهظ وجداني ولم أعرف كيف أهرب منه. تحت هذا الضغط الوجداني كتبت قصة “أبي”. كانت”كتابة هذه القصة نوعا من التطهير. كانت دعوة له للتصافي والتصالح. أردت أن أقول لكيانه الماثل في وجداني: أنت لست سيئا، لم أعتبرك في أي يوم كذلك، صدقني. وأنا أيضا لست سيئا. المشكلة أننا لم نجد طريقة للتفاهم. أنا لم أنس معاناتك وأفضالك علي. وأنا أعرف أنك في أعماقك تحبني ولم يجعلني ماكنت تبديه من قساوة أؤمن بالعكس. فلماذا نستمر في الخلاف؟. ما هي مصلحتنا في ذلك؟. لقد تعبت أنت وأنا ووصلنا إلى مرحلة ينبغي أن نتصالح فيها ونتصافى وينصف أحدنا الآخر. الغريب في الأمر أنه لم يعد يظهر في أحلامي كثيرا ولم نعد نتخاصم”**.
* من قصتي “أبي” ضمن مجموعة “منابت الحنظل والشيء الذي ينأى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى