القمة الروسية ـ الأميركية
عبد المنعم سعيد
ساعة نشر هذا المقال سوف يكون أكثر من أسبوعين قد مرا على القمة «الرسمية» الأولى بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي دونالد ترمب في التاسع من يوليو (تموز) الحالي. هذه الفترة ربما كانت ضرورية حتى ينجلي الضباب الكثيف الذي أحاط بالقمة وتركز على تأثيرات التحقيقات الأميركية الجارية الخاصة بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح المرشح الجمهوري، الرئيس الآن، ترمب. قبل يومين من القمة نشر موقع «The Hill» خمسة أسئلة توضح أن الإجابة عنها تشرح ما جرى في الاجتماع: ما الذي سوف يقوله ترمب عن التلاعب الروسي؟ من سيحضر الاجتماع؟ كيف ستكون لغة الجسد بين القائدين؟ ماذا سوف يفعل بوتين؟ هل سيحدث تقدم في سوريا؟ الجولة الأولى من التعليقات على ما جرى في الاجتماع كلها ركزت على قضية عما إذا كان ترمب قد أثار موضوع التدخل الروسي وبالقوة المناسبة لعمل فادح للتدخل في سير الديمقراطية الأميركية. الجانب الأميركي – تيلرسون وزير الخارجية تحديدا – أكد أن ترمب قد أثار الموضوع بقوة مديناً السلوك الروسي؛ بوتين من جانبه قال إن الموضوع طرح، وإنه نفى الدور الروسي. ويبدو أن ترمب قد اقتنع بالأمر.
الآن كثير من المعلومات باتت متاحة عن القمة الأميركية الروسية وكلها تبعدها عن تلك النقطة التي أراد الجميع التركيز عليها، إن اللقاء سوف يكون اختبارا لترمب في دفاعه عن الديمقراطية الأميركية، حيث يحتج على السلوك الروسي؛ وفي الوقت نفسه اختبار بوتين وترمب معا في عما إذا كان حديث أجسادهما يدل على علاقات سابقة. وبعيدا عن التعليقات هنا أو هناك فإن اللقاء كان ذا طبيعة استراتيجية من الطراز الأول، ويعود بنا إلى ما ذكرناه من قبل في هذا المقام عن توجهات ترمب تجاه روسيا، التي تذهب إلى أن صفقة كونية يمكن عقدها بين واشنطن وموسكو تحقق مصالح الطرفين، وتجعل العالم مختلفا عما كان. فعلى عكس ما ذكر قبل الاجتماع أن وجوده على هامش اجتماعات قمة العشرين ربما يجعله ذا طبيعة استكشافية، خاصة أن الوقت المخصص له في جدول الزعيمين هو 30 دقيقة، فقط لا غير. في الواقع امتد الاجتماع إلى 140 دقيقة؛ وأكثر من ذلك عقد اجتماع آخر ثنائي بين بوتين وترمب على عشاء خاص، لم يحضره وزيرا خارجية البلدين اللذان حضرا الاجتماع الأول. وربما جدد ترمب كل الشكوك حول طبيعة الاجتماع عندما عاد مرة أخرى إلى القول إن روسيا ربما تكون قد تدخلت في الانتخابات، ولكن هناك إمكانية تدخل أطراف أخرى أيضا: «فلا أحد في الحقيقة يعرف»!
أكثر من ذلك، فإن مخرجات الاجتماع ربما توحي بحقيقة ما حدث فيه، فمن ناحية اتفقا على وقف إطلاق النار في جنوب سوريا، مع الدفع بسياسات التهدئة في جميع المواقع الأخرى، ما عدا تلك المتعلقة بالقتال ضد «داعش». ومن ناحيتها، فإن الولايات المتحدة قررت، ربما استجابة لطلب روسي، وقف برنامج وكالة المخابرات المركزية الأميركية لتقديم العون العسكري لجماعات المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد؛ في حين على الجانب الآخر قبلت بوجود روسي واسع النطاق في سوريا لا يشمل فقط قواعد عسكرية جوية وبحرية، وإنما برية أيضا مع استغلال للغاز والنفط السوري عن طريق شركة «إيفروبوليس» الروسية، مع قيام شركة «استرويترانز» باستخراج الفوسفات الذي كان واقعا تحت سيطرة «داعش». الصورة النهائية فيما يتعلق بسوريا هي تسليم ترمب بالمطالب الروسية من أول الاعتراف بشرعية حكم بشار الأسد، وحتى أن تكون الطرف المهيمن ليس فقط على الساحة السورية، وإنما أيضا على إدارة العمليات السياسية المتعلقة بها. وحدث ذلك وسط احتجاجات إسرائيلية كبيرة حول أن الاتفاق بصدد سوريا يعرض أمن إسرائيل للخطر؛ لأنه لا يضع فقط القوات الروسية في موقع التماس مع الحدود الإسرائيلية، وإنما أيضا القوات الإيرانية، وقوات «حزب الله» المتحالفة معها، على الحدود نفسها. النهاية كانت إعطاء روسيا تطمينات لإسرائيل التي يبدو أن انزعاجها وقلقها لم يتبدد بشكل كامل.
هل حدث ذلك في شكل صفقة بين واشنطن وموسكو، وأين تقع هذه الصفقة وهل هي في العراق، أو أوكرانيا، أو كليهما معا، أو في مواقع أخرى من العالم؟ ما نشر عقب لقاء الزعيمين لا يعطي كثيرا من المعلومات، وما لم ينشر عن لقاء العشاء، يجعل من المناسبة غموضاً يحتاج إلى كثير لفض أسراره. ولكن هناك ما يمكن تأكيده، وهو أن استراتيجية ترمب القائمة على التوافق أو «الوفاق» مع روسيا تبدو مستمرة بعد الحملة الانتخابية، ولا يعوقها إلا معارضة الكونغرس بجناحيه الجمهوري والديمقراطي لعلاقات ودودة مع روسيا، خاصة بعد ما قامت به روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأكدت حدوثه أجهزة المخابرات الأميركية كلها. فرغم ذلك فإن ترمب اتفق مع بوتين على تشكيل «وحدة للأمن السيبراني» للبلدين؛ وأكثر من ذلك، فإن ترمب نوه إلى أهمية إعادة النظر في العقوبات التي قامت بها الولايات المتحدة بعد التوغل الروسي في الأزمة الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي.
كل هذه الإجراءات الخاصة بسوريا وغيرها تؤكد أن القمة لم تكن حول موضوع التدخل في الانتخابات الرئاسية، وإنما حول أن ترمب لا يزال إخلاصه قائما لرؤيته حول شكل العلاقات المراد إقامتها مع موسكو. القمة هنا تعود بالذاكرة إلى قمة موسكو الأميركية الروسية في مايو (أيار) 1972 بين ريتشارد نيكسون وليونيد بريجنيف، التي نادت «بالاسترخاء العسكري» في الشرق الأوسط، وتوصلت إلى اتفاقية «سالت 1» التي نظمت سباق التسلح النووي بين البلدين، وأشهرت وقتها ما عرف في السياسة الدولية بسياسة «الوفاق Detente»؛ وقمة «ريكيافيك» (آيسلندا) بين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشيف، التي ربما كانت نقطة البداية في وضع نهاية للحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي. قمة هامبورغ بين ترمب وبوتين ربما تكون لها النتيجة التاريخية نفسها، خاصة إذا ما عرفنا ما جرى بين الزعيمين على العشاء الذي لم يحضره أحد، ولا صدر بصدده بيان رسمي، اللهم إلا ما قيل عن أن الشرق الأوسط استحوذ على وقت غير قليل من الاجتماع. ولكن ما يهمنا في كل الأحوال هو ليس فقط حقيقة ما حدث، وإنما مدى تأثيره على المنطقة العربية خاصة ما يتعلق بمنطقة «الهلال الخصيب»، حيث تتشابك القضايا في العراق وسوريا ولبنان، وتؤثر على الأردن ومنطقة الخليج، وفي كل الأحوال فإن إسرائيل واقفة مترقبة ومتحفزة وقلقة. كل ذلك لا يجعل من وقف إطلاق النار والتهدئة في سوريا – على أهميته – نهاية للأزمة الكبرى التي ألمت بالمنطقة وشغلتها خلال السنوات الست الماضية؛ وربما على العكس تكون بداية لأزمات أخرى أكثر حدة. المهم أن يكون الجانب العربي للأحداث مستعدا، وفي عام 1973، ورغم كل التوافقات الأميركية – الروسية (السوفياتية آنذاك)، أحرز العرب أعظم انتصاراتهم التاريخية.
__________________________________