“218” تُحاور المخرج “أحمد إبراهيم” عن المسرح و”طَزَاجته”
خاص 218| خلود الفلاح
أحمد إبراهيم، مخرج مسرحي ليبي، أعماله المسرحية يجمعها قاسم مشترك، ألا وهو وجع الوطن، ويلفت إلى أن مسرحياته عمتي ونيسة، والمسخ، ووزارة الأحلام، وحلابة القمر، ومكان مع البهائم، ومتاح لك الآن. تندد بالعنف وتدعو لرأب الصدع وتدعو للسلام وكل شخوصها تصرخ معا “نريد وطن”.
يرى أن مشكلة المسرح الليبي تكمن في غياب المسرحيين الحقيقين، أصحاب الرصيد الثقافي والفكري والدراية بأسرار الفن وماهيته الحقيقية.
في هذا الحوار تحدث المخرج المسرحي أحمد إبراهيم عن حلمه المؤجل وهو فرقة شموس ليبيا المسرحية، وعن ضرورة الاعتراف أن الموهبة وحدها لا تصنع فنان، ورغبته في مشاهدة عمل مسرحي يمكن أن نطلق عليه لقب “مسرحا حقيقيا”.
– ممثل، مخرج، سيناريست. أين تجد نفسك بينها؟
* إذا كان التمثيل هو حياة الروح الإنسانية التي تولد عن طريق الفن، وإذا كان الإخراج هو خلق للحياة بأسرارها. وتناقضاتها، وايقاعاتها، وعلاقاتها وبقيمها، وجمالياتها، وإذا كانت الكتابة الدرامية هي إعادة صياغة للحياة، فكل هذه العمليات الإبداعية بحاجة لقدرة هائلة على التقمص والتركيز والإحساس والعديد من الملكات التي هي أساس فن الممثل، ولهذا فإن الممثل الذي اشتغلت عليه وتعبت عليه دراسة وتدريبا حتى كنته قادر على كتابة وصياغة عرض مسرحي خاصة أني درست هذه المجالات وأمارسها دون توقف منذ 38 عامًا، ولكن لو وضعت في اختيار فإنني أختار التمثيل خاصة إذا أعجبني النص ووثقت في إمكانيات المخرج وفكره وذائقته الجمالية. والحقيقة أن المخرجين الحقيقيين في بلدنا قلة ولا يتعدون أصابع اليد الواحدة.
– فرقة شموس ليبيا. أين هي الآن؟
* فرقة شموس ليبيا حلم لا يكتمل إلا إذا استقر البلد وعادت إليه الروح ودبت فيه الحياة.
هي فرقة من المفترض أن تكون قادرة بإمكانياتها على جمع القدرات “الشموس” الليبية من كل المدن والأقاليم وليس التجمع هدفا بل الاستفادة من هذه الشموس المبعثرة ـ بحسب الحاجة إلى خدماتها ـ لتقديم المستوى الجمالي المنشود. والعمل على توفير مناخ يعملون فيه لغرض تطوير أعمالنا لمواكبة التطور الذي يشهده العالم في مجال الدراما وفنونها المختلفة، وهذا الحلم من العسير تحقيقه في ظل الظروف الراهنة والعروض التي قدمتها الفرقة كنت أنتجها بمنحة أرباب الأسر ومساعدات الزملاء المشاركين في العمل، وهذا ينعكس على مستوى العمل فكأنما نقدم رسمًا مبدئيًا “اسكيز” للوحة فنية هي المشروع والحلم المرتجى. وإلى الآن الفرقة بلا مقر، ولكن شموس ليبيا مستمرة مادامت الأحلام بلا وزارة ولا تعصب قبلي، ولا جهوية، ولا رقيب يكسر أجنحتها.
– كيف تصف لنا المشهد المسرحي في ظل ظروف معيشية وسياسية تزداد تعقيدًا يوميًا؟
· المشهد المسرحي ليس في ظل هذه الظروف فقط ولكن بصفة عامة يعاني التهميش ولا ترقى عروضه إلا ما ندر منها إلى المستوى المطلوب، ما أعتبره مسرحًا حقيقيًا عندنا هو تلك المحاولات الجادة لقلة من المسرحيين.
معضلة المسرح الليبي كغيره من المسارح في دول الجوار العربي تكمن في غياب المسرحيين الحقيقيين، فالكثير مع الأسف يفرض نفسه على هذا المجال بل ويجادلون فيه بغير علم ولا يبذلون أي جهد للتعلم، فقراء فنيًا وفكريًا وثقافيًا، يجترون ويستنسخون تجارب غيرهم لا يعرفون شيئًا عن تاريخ المسرح ولا عن مذاهبه وتياراته. يتسترون بتوسيع دائرة معارفهم. بل ويتسترون على جهلهم بالغطرسة والنرجسية والادعاءات والغرور والعجرفة، هؤلاء يهدمون ما بناه غيرهم من المسرحيين المبدعين، الذين انخرطوا في ممارسة مسرحية شاقة وطويلة، أولئك الذين يتمتعون بموهبة صقلتها التجارب المتجددة،الملتزمون بأخلاقيات المسرح وأدبيات وأصول العمل الجماعي، أصحاب المشاريع الفنية والخلفيات الفلسفية والعمق الفكري. فليس هينًا أن تعيد صياغة قطعة من الحياة بدون رصيد ثقافي وفكري ودراية بأسرار الفن وماهيته الحقيقية. وليست المشكلة في توفر الإمكانيات والدعم فما جدواها دون مسرحيين حقيقيين، الموهبة وحدها لا تكفي.
– مسرحية “المسخ” للمخرج عز الدين المهدي، تمثيل ودراما تورجيا أحمد إبراهيم. كيف استطعت كدراما تورجيا للنص أن تحقق التوافق بين المواد النصية والركحية، وتوجيه الفرجة إلى الغاية المطلوبة؟
· المخرج هو قائد العمل الفني. ولكن يحدث أن يسحبوا من تحت رجليك البساط لأهداف في الغالب شخصية رغم حاجتهم لأفكارك ولجهدك وأحيانا لاسمك وقد يضغطون عليك لتمرير فكرة ساذجة أو للتخلص والتملص من أداء أو تنفيذ ما هو مطلوب منهم، وتتعدد الأسباب والأساليب، حدث لي ذلك عدة مرات، وكاد أن يحدث لي خلال عملي على نص يوجين يونسكو “الملك يموت” إرضاء لممثلة معي بالعمل لم يقنعها تغييري لدورها بعد العرض الأول، وللاحتياط كتبت النص من جديد دون هذه الشخصية في حال إذا حاول مناصروها ومحرضوها على التمرد على سلطة المخرج وهكذا أضمن عدم توقف العرض، ثم خفت من موقف جماعي قد يطرأ في وقت حرج فكتبته سرا بشخصية واحدة للتحدي وعنونة النص ذي الشخصية الواحدة “احتضار” ولكن حدث أن هداها الله ورأى داعموها أنني على استعداد للتخلي عنهم جميعا وشاركنا بالمهرجان الوطني العاشر وفازت الممثلة المبدعة جميلة المبروك بشخصيتها الجديدة بجائزة أفضل ممثلة وفزت معها بجائزة أفضل ممثل. أصبح عندي أكثر من نصين للعرض ذاته بنفس المحتوى والتكنيك اليونسكي في مسرحه.
وفي عام 2015، وبعد تأسيس مختبر العلاقي للفنون الدرامية؛ أحببنا أن تكون باكورة أعمال المختبر إعادة انتاج عرض “الميت الحي” للمبدع المرحوم محمد العلاقي والذي يحمل المختبر اسمه ارتأينا أن نقدم تجربة مصاحبة فاخترنا نص “احتضار” المعد عن “الملك يموت” قمت بإخراجه وتم عرضه على خشبة مسرح الكشاف بطرابلس وفي البهو الخارجي للمسرح الوطني بمصراته احتفالا باليوم العالمي للمسرح ومثله باقتدار الممثل الرائع واصف الخويلدي.
وعندما ساءت ظروف البلاد وتعقدت عدت لأهلي بالمرج متحسرا على ما آلت اليه أوضاعنا. عازما أن أصرخ رافضا هذا الوسخ، وهذا التصدع الذي لحق بالوطن، رأيت الساسة والمفسدون مسوخًا بشرية يشبهون الملك المتشبث بالحياة والساعي للخلود على حساب حدود مملكته وشعبه حتى لم يبق له إلا قصره المتصدع. وقرأت قصة للناشطة مروة هابيل آلمتني كثيرا وجعلت ألمي ووجعي ليس على ليبيا وحدها بل على البشرية جمعاء؛ فجعلت من القصة الأشبه بهذيان عبثي استهلالاً لعرض مونودراما “احتضار” والتي أسميتها بالاتفاق مع المخرج ومدير مسرح الغد بالبيضاء عز الدين المهدي بمونودراما “المسخ” والتحق بي المهندس الفنان خالد بوشرود لعمل سينوغرافيا العرض بمواد مختلفة من مخلفات الشوارع. وأيضًا انضم لنا الفنان رمزي محارب من طبرق للموسيقى وكلاهما اشتغلا الإضاءة. إضافة للفنانين عبد القادر عبد الحميد ومحمد سعد وبدعم من الإذاعي صالح كامل مدير إذاعة الجبل المحلية، ورغم جهوده المشكورة إلا أنها كانت أياما صعبة في برد البيضاء القارس وعلى خشية مسرح متهالك تعبث به الرياح. إلا أن حب الفريق للعمل ورغبتهم في عمل أي شيء حبا في الوطن كان مبعثًا للدفء وممدًا لنا بالطاقة حتى وصلنا بعرضنا لمهرجان ” 24ساعة مسرح” بالكاف التونسية غربا وبمهرجان” المسرح العربي” بالقاهرة شرقًا، كما قدمت قراءة للعرض في فضاء تاناروت تحت مظلة شموس ليبيا المسرحية. حكاية المعاناة هذه شكلت وجدان العرض وعمقت رؤياه.
– إلى أي مدي يشغلك الإنسان في أعمالك؟
· الإنسان هو جوهر أعمالنا. نحن نعمل على تلبية احتياجات الإنسان الجمالية والذهنية طامحين لمناصرة قضاياه ومساهمين في جعل حياته أجمل أو حتى محتملة. فالطبيعة البشرية بكل التناقضات والتحولات هي مادتنا التي نعمل عليها، أهتم بأفعال الإنسان البسيطة فالدراما هي فن الفعل، والفعل هو الكاشف لخبايا النفس الإنسانية، فالإنسان ما يفعل لا ما يقول، ومهمتنا الأساسية تنحصر في البحث عما يجب أن يكون في اتجاه يقظة الضمير الإنساني.
مهمة الفنان خلق أنماط وشخصيات تتأثر وتؤثر وتحمل معنى الشمول مع أنها من خلق فنان متفرد.
– في مسرحية “عمتي ونيسة” وظفت خرافة ام بسيسي كنوع من الرمز لما يحدث في ليبيا من نزوح وحرب وفقد. هل توظيف الموروث الشعبي الليبي، هو تأكيد على هوية مسرحنا الليبي؟
* ” خرافة وطن” أو “عمتي ونيسة” نص حداثي يضرب بالبناء الدرامي المسرحي التقليدي عرض الحائط مستعيضًا بالصور الشاعرية والأفكار المتواثبة المرتبة بعشوائية وبلا منطقية للحكاية فيها بشكل يشبه إلى حد كبير حالة عدم المنطقية في الأحداث التي تمر بمجتمعنا اليوم. ربما القصة المتماسكة التي يمكننا تجميعها هي التي تحكيها السينوغرافيا التي وضعها المصمم الفنان خالد بوشرود. والتي أجاد المخرج عز الدين المهدي توظيفها وحرك فيها ونيسة المبدعة سعاد خليل المتحركة كآلة جامدة دلالة إعاقتها، العجز عن إحداث تغيير فراحت تتقيأ مونولوجها الداخلي وتساؤلاتها المستفزة والمؤلمة عاجزة عن نسج لوحتها الصوفية على مسدتها في عمق المسرح.
إنها كمسرحيات مسرح اللامعقول في رفضها ومحاولة تمردها رغم عجزها على الواقع المعاش “خرافة” فجة وفارغة مقفلة تبدأ من نقطة ثم تنتهي بها. شخصيتها الوحيدة تعاني من العزلة لعدم استطاعتها الاتصال بالآخرين.
اللغة في النص ماهي إلا ثرثرة لا معنى لها. حوار غير محكم البناء يجعل المتلقي في حالة من الدهشة والاستغراب رغم أن لا شيء يحدث سوى تكرار ثيمات أم بسيس، خوف من الموت وآمال لا يبدو أنها ستتحقق إلا بمعجزة كحاجة ليبيا إلى معجزة للخروج بها من حالة العبث. تلك المعجزة التي عبر عنها المخرج بالمطر في نهاية العرض.
– يرى بعض النقاد أن الدراما التلفزيونية طغت على السينما والمسرح، فألقتهما خارج المنافسة.. ما رأيك؟
· الدراما التلفزيونية في العالم في أوج قوتها ولكنها لم تطغ أبدًا على سحر السينما وحيوية المسرح.
وأنا أراها فن هجين استفاد من أبو الفنون “المسرح” وتطور باللغة السينمائية وتقنياتها العالية الجودة ولكن يظلّ لكل جنس منهم مكانته وتأثيره المتفرد، ولا يمكن القياس على ما عندنا بأي حال من الأحوال حيث كل شيء عندنا في طور المحاولات الفردية الخجولة.
إن برز فيها جانب مشرق، غابت عنها جوانب أخرى.