“فبراير كانت حتمية” *
سالم العوكلي
لعل المتتبع لتاريخ ليبيا في الأربعة عقود الماضية سيصل إلى وجهة نظر تقول إن النظام نفسه هو الذي فجر ثورة فبراير.
هذا النظام الذي تعرض لعدة محاولات من المؤسسة العسكرية نفسها التي أتى عن طريقها لمحاولة الإطاحة به، كان دائم القناعة أنه لا يمكن لثورة شعبية أن تسقطه حسب معرفته بتاريخ هذا المجتمع وطبيعته الديموغرافية، ورغم خوفه الذي أعلنه في كتاباته القصصية من الحشود التي حملت موسيليني على أكتافه ثم علقته من رجليه في طقوس إعدام وحشية، إلا انه كان دائم الترويض لهذا الفزع عبر تأكيده على أن فكرة الحشد في ليبيا مستحيلة، بما تتميز به من كثافة بشرية قليلة في جغرافيا مترامية الأطراف، وحتى عندما رأى المظاهرات في تونس والمليونيات في مصر كان يؤكد بثقة أن ليبيا ليست مصر ولا تونس ، بل أن ليبياه ليست أي شيء سابق أو لاحق، فهو من يعتقد أنه فصلها على هواه وعلى مقاسه، وأنه بعد أربعة عقود من دور الأب الذي مارسه على شعبها، وبعد أن امتلأ باب العزيزية بالذرية الصالحة وغير الصالحة، وأصبحت هذه الذرية حلقته الضيقة، ومحل جدال طقوس التوريث القادمة، وبعد أن خرج من عزلته ومن الحصار وعاد متبجحا إلى حظيرة المجتمع الدولي وشغف القوى العظمى بهذا الآيب لتقديمه للعالم مثالا على النموذج التائب، أو عودة الابن الضال، وبعد أن أصبحت المليارات في خدمة جنونه ، بعد كل ذلك كان يشعر أنه وصل إلى أوج قوته في مجتمع وصل إلى أوج ضعفه، في حالته التعليمية والصحية وحتى العقلية، وهذا ما انعكس على خطابه يوم 22 فبراير الذي وصف فيه رعيته بالجرذان وتوعدهم باستخدام قوته، وبأنه باق في هذه الأرض المفصلة على مقاسه وبأن فاتحه أبدي.
الليبيون أيضا عاشوا معه مراحل مختلفة وانقسموا حياله، بين كاره حد الحقد وبين مستفيد من جنونه وشطحاته، وكان طوال الوقت وعبر نظريته الثالثة يزيد من عدد المستفيدين من فوضاه ومن تقلباته، بل عمل على أن يجعل الفساد ثقافة شعبية عبر تلك الورش التي أقامها في القطاع العام وفي الإدارة الشعبية دون رقابة أو عقاب.
مر الليبيون بمراحل من علاقتهم النفسية مع هذا النظام ومع القذافي، بدأت بهيجان شعبي مؤيد له في سنواته الأولى، ثم زمن ارتباك بعد إعلانه النقاط الخمس وبعد أحداث الجامعات وشنق الطلاب في الميادين وبعد أن نقل الشباب الليبي للموت في حروب إقليمية لا ناقة لنا فيها أو جمل، وتغير المزاج الليبي إلى حالة كراهية باستثناء المستفيدين وما أكثرهم، واكتفت هذه الكراهية بالدعاء عليه وبرجاء الله تخليص ليبيا منه، وتحولت هذه الكراهية إلى احتقان كبير في الشارع خصوصا إبان أسوأ عقد، الثمانينات، والذي بدأ فيه اللعب بمشاعر الليبيين علنيا، ذلك اللعب الذي تمخض عن وجود الناس في طوابير طويلة دون حتى أن يعرفوا لماذا هذا الطابور، بل أنهم كانوا يدفعون نقودهم مقابل كيس مغلق لا يعرفون ما في داخله .
وكانت النقلة الدرامية الكبرى بعد أن تعتق هذا النظام في كون أن القطاع الواسع من الليبيين الذين كانوا يتوجهون بالدعاء على رأس النظام ويتمنون موته، أصبحوا يتلمسون الكابوس في موته، وغدا السؤال الشائع : ماذا يحدث لنا لو مات القذافي فجأة؟ وطبعا لم يكونوا يفكرون سوى في ميتة طبيعية، أو نهاية بيولوجية له، حين أحاط نفسه بجيش كامل من الحراس وعاد من جديد إلى حضن الدول المعادية له بعد أن سلم برنامجه النووي كاملا للولايات المتحدة حين رأى الطبيب الأمريكي يضع المصباح في فم صدام المنخور الأسنان .
وتحول موت المستبد إلى كابوس بالنسبة للضحايا، وهي نقلة درامية حادة لن تحيط بها حتى خيالات شكسبير في مسرحه.
لكن البديل الآمن بدأ يظهر على السطح ضمن ظاهرة الإصلاح التي بدأت تعرض مكياجها في المنطقة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتحرر الوحش اليانكي من كل قيوده القانونية وهو يجتاح أي مكان في العالم بذريعة الحرب على الإرهاب وحماية المواطن الأمريكي . بدا البديل يظهر في شخص سيف اٌلإسلام المحور كي يروض هذا الوحش وكي يجعل من الإصلاح لافتة ليبية ترفع كلما التفت منظرو حقوق الإنسان إلى هذا الجزء من العالم، وتعلق قطاع واسع من الليبيين بهذا السيناريو الذي يهدئ من روع كوابيسهم المتعلقة بسؤال ماذا بعد القذافي الأب .
واستطاع سيف أن يدغدغ عواطف النخبة وعواطف العوام بمشاريعه النظرية وأحلامه وإشهاره لكل المصطلحات التي كانت محرمة في قاموس الثورة ، بما فيها اسم ليبيا نفسه، دغدغ النخب بحديثه المتواصل عن الديمقراطية الحديثة وعن الدستور والأحزاب والمجتمع المدني وغيرها مما يشبع الشغف النخبوي، ودغدغ عواطف العوام بحديثه عن التنمية والإسكان والرفاه واستيراد نموذج دبي.
ومشى مع سيف من مشى، وشكّك من شكك، وسخر من سخر، وتفاءل من تفاءل، وتشاءم من تشاءم، لكنه توجه بقوة إلى قطاع الشباب الذي أراده أن يكون ذخيرته في مشروعه المسمى ليبيا الغد، واتجه إلى جماعة الإخوان كي تكون ظهيره الأيديولوجي في توجهه وبديلا للجان الثورية التي كانت العمود الفقري لنظام والده، لكن المرحلة الجديدة تحتاج إلى ديكور جديد وإبعاد كل ما هو ملوث بالنسبة للمزاج الليبي، واستعان بخبرات وطنية مقبولة في الشارع الليبي لتتقلد مناصب مهمة من أجل تأثيث ليبيا شقة مفروشة للعريس الجديد.
ورضي الليبيون بالهم لكن الهم نفسه لم يرض بهم، وتحولت البلاد إلى لعبة بين يد الأب ويد الابن، والأب يترك ابنه حتى يبني قصور أحلامه برمال على الشاطي وبعد أن يقترب من بنائها يمر والده ويركلها برجله ويمضي، والليبيون يتفرجون على هذه اللعبة التي لا تنتهي، وأصبح للابن يوم محدد في أغسطس يخطب فيه ليأتي والده بعد عشرة أيام ويلقي خطاب الفاتح المقوض لخطاب ابنه ووعوده، وبين خطاب ناسخ وخطاب منسوخ كان الشعب الليبي لا يملك إلا أن يدوخ. وسياسة التدويخ المستمر كانت تقنية النظام المفضلة لكي يستمر ولكي نرى كل ما حولنا يدور، وهذه الآلية مازالت مستمرة بالدفع الذاتي حتى يومنا هذا الذي غدا فيه المأثور المفضل للشارع (تحب تفهم ادوخ) .
نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة يئس الناس من وعود الابن مثلما تعودوا من وعيد الأب، وتحول سيف الإسلام، أو سيف الأحلام كما يحلو للبعض تسميته، إلى محل فكاهة وتندر وتبدل اسمه من سيف الأحلام إلى مزيل البطشة لدى الرأي العام، طبعا ماعدا الكثرة؛ المستفيدة من وعيد الأب ووعود الابن، وصل الاحتقان إلى مداه، وفي لحظة من اللحظات التي تظهر فيها البجعات السوداء توجهت أنظار الليبيين إلى تونس وحاكمها المطلق يهرب على متن طائرة إلى وجهة غير معلومة، ثم إلى مصر ورئيس مخابراتها يعلن عن تنحي حسني مبارك عن السلطة، ومثلما كان كل شيء يذهب إلى تونس ثم يعود إلينا عن طريق مصر، كان أن رأى الليبيون، أو الكثرة غير المستفيدة، في هذا التحول فرصتهم ليعلنوا أخيرا عن وجودهم، وهذا ما كان لابد أن يحدث لأن النظام كان يجهز لفبراير وهو في ذروة تمسكه بسبتمبر، وهو السيناريو الذي تجنبه بحنكة بعض الحكام القريبين والبعيدين، لكن حين خطب القذافي هذه المرة قبل الابن بوعيده المعتاد انتظر الناس الخائفون من المغامرة خطاب الابن لعله ينسخ خطاب والده، لكن سيف نفسه تحول من الوعود إلى الوعيد، وكان منذ تلك اللحظة للثورة المترددة أن تحسم أمرها .
أقول للذين مازالوا يدافعون عن نظام القذافي، والمقربين منه، لو أنكم نصحتموه ماذا عليه أن يفعل حين بدأ الحراك في تونس ومصر، وماذا عليه أن يقول في خطابه، وماذا على ابنه أن يقول، لربما كنتم ناصحين أوفياء له، لكن تقاريركم الكاذبة التي تقدمونها له عما يحدث في ليبيا هي من أوصلته لهذه النهاية، وإن ما فعلتموه بهذا الشعب الذي كان معظمه يقف طوابير على 20 دينار على الأحمر كان هو السبب وراء ما حدث .
لا تلوموا أحدا ولا تتهمونا بالمؤامرة، فانتم من تآمرتم على قائدكم الذي كنتم معه تأكلون بملاعق من الذهب وتطوفون العالم استجماما، بينما شعبكم يبيع ما يملك من أجل علاج أمراضه في تونس ومصر والأردن .
ونهاية أقول حمدا لله أنكم لم تكونوا في مستوى تنبيهه أو تحذيره لأن هذا النظام كان لابد أن ينتهي، وكان لابد لفبراير أن تكون، ونحن مستعدون لدفع الثمن الذي دفعته كل الثورات من أجل الوصول إلى ليبيا التي نستحقها وتستحقنا، وستكونون أنتم أو أولادكم إذا طال المطال جزءا من ليبيا التي تتسع لنا جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*آخر جملة وردت في مقالة مجاهد البوسيفي “هل أنت تعب…؟” موقع 218 . 17 فبراير 2017 .