ماذا يعني مكماستر للعرب؟
مأمون فندي
عملت مع مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد إتش آر مكماستر لمدة عام عندما كنت مديرا لبرنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن، وكان هو يعمل باحثا في الأمن القومي في المعهد ذاته. كان يومها الذراع اليمنى للجنرال ديفيد بترايوس الذي قاد القوات الأميركية في العراق. اسمه الأصلي ريموند مكماستر، ولكنه يفضل أن ينادى بـH.R. وكان معروفا عنه لقب المحارب المفكر (soldier scholar) كواحد من أهم العقول الاستراتيجية في العسكرية الغربية، ولقبه هذا تنويعة على عنوان كتاب لأهم مؤرخي الحروب السير مايكل هاورد الذي كتب كتابا عن تاريخ حياته بعنوان (Captain Professor) قصة حياة في تاريخ السلم والحرب. وكان أيضا السير مايكل هاورد عضوا في مجلس أمناء معهد الدراسات الاستراتيجية بعد تاريخ طويل من الحرب، حيث كان مشاركا في الحرب العالمية الثانية، وتدريس الاستراتيجية وتاريخ الحروب. وهو المترجم الرئيسي لكتاب كارل فون كلوتزفيتر عن الحرب وكثير من الكتب الأخرى عن الاستراتيجية العسكرية، وكان إتش آر وما زال في تصوري مغرما بمايكل هاورد فكريا، وظني أن إتش آر لا يقل عن السير هاورد، بل يتفوق عليه في أنه قادر على تحويل التفكير الاستراتيجي إلى عمليات عسكرية على الأرض (Actionable plan).
كنت قد وعدت القارئ بعد الكتابة عن وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس أن أكتب عن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، ضمن فريق الرئيس دونالد ترمب الذي طرحته ضمن نظرية حكم النسق الثاني، ولكن وبعد مفاجأة تعيين ترمب لإتش آر كمستشار للأمن القومي ومعرفتي الشخصية بالرجل قررت الكتابة عنه، ثم أعود للكتابة عن تيلرسون في المقال القادم، وذلك لأن فهم فريق التنفيذيين الأساسيين في إدارة ترمب سيكون مفتاحا لفهم السياسة الأميركية الخارجية، خصوصا أن مثلث ماتيس، تيلرسون ومكماستر، هو مثلث عقول نادرة لم تشهدها إدارات أميركية سابقة رغم كل ما يقال عن شطط ترمب! رجال يستطيعون الاختلاف بوضوح مع البيت الأبيض لطرح وجهة نظرهم في المصلحة الأميركية العليا والأمن القومي الأميركي. ومن يعرف إتش آر يدرك أن الرجل لا يتردد أن يختلف بوضوح مع رؤسائه، ولهذا تاريخ طويل منذ بداية تكوينه الفكري، فقد كتب كتابا كان رسالة الدكتوراه التي أعدها في جامعة نورث كارولينا تشابل هيل، بعنوان (التخلي عن المسؤولية: كيف فشل جونسون ومكنامارا في فيتنام)، والذي أوضح فيه بشكل لا يقبل الشك أن خسارة الحرب في فيتنام لم تكن على الأرض في آسيا، بل كانت في واشنطن أولا وفي البيت الأبيض وفي عدم قدرة القادة العسكريين على إعلان آرائهم بصراحة في مواجهة الرئيس جونسون ووزير دفاعه مكنامارا. وهذا ليس مجرد مراجعة أكاديمية، بل كان إتش آر يعبر عن آرائه في الحرب في العراق بوضوح وكان أحد مهندسي زيادة القوات مع بترايوس، وقد منع من الترقية لرتبة جنرال، حتى جاء وزير الدفاع بوب غيتس وطلب من بترايوس العودة إلى واشنطن لمراجعة ترقية مكماستر وتمت ترقيته رغم آرائه الحادة.
النقطة هنا هي أن إتش آر لا يتردد في التعبير عن رأيه وسأعرض لبعض أفكاره التي تخص الشرق الأوسط فيما بعد. ولكن يكفي القول بأنه عكس مايكل فلين مستشار الأمن القومي الذي أقيل بعد أربعة وعشرين يوما من تولي ترمب الرئاسة، والذي كان كارها للمسلمين بشكل عنصري مقزز، نرى مكماستر متفهما للفارق بين المسلمين والمتطرفين وبوضوح ولم يستخدم تعبير «الإسلامي» لوصف التطرف مرة واحدة خلال معرفتي الشخصية به.
مكماستر محارب وعقل استراتيجي متميز، وكذلك رجل إدارة منظم فعندما عاد إلى واشنطن بعد ترقيته سلم مهمة إعادة الهيكلة لإعداد الجيش الأميركي لحروب المستقبل. ورغم أننا في منطقتنا لدينا هوس بالحروب الإلكترونية والجيل الرابع والخامس، وكل شيء لا علاقة له بالعلوم العسكرية إلا شفاهة، نجد أن مكماستر لا يرى أي قيمة إلا في الاستحواذ على الأراضي والحفاظ عليها، وكما قال ذات مرة حتى يحدث تحالف بين الأسماك في البحر وأعدائنا، فليس لدينا سوى الاستحواذ على الأرض والتركيز على البشر. ومن هنا الجيش على الأرض وليست البحرية أو القوات الجوية هي الأساس، نعم لا بد أن يكون هناك تنسيق بين القوات المشتركة، ولكن الجيش هو الأساس لكسب أي حرب.
ومن فكرة الاستحواذ على الأراضي وليس من أي شيء آخر أعرج على تفكير مكماستر تجاه إيران، فهو يعتقد بأن كل ما تفعله إيران هو استحواذ على الأراضي وسيطرة على البشر، من خلال التغلغل في دول ضعيفة بدعوى مساعدتها ثم يتم بناء مؤسسة مثل «حزب الله» بقدرات أقوى، وبعد ذلك تبتز إيران الدولة لتمشي حسب إملاءات المرشد، وهذا من وجهة نظره هو ما يخضع لبنان والبحرين واليمن للنفوذ الإيراني. ولمواجهة الاستحواذ الإيراني لا بديل عن استعادة الأرض وتقليص نفوذ إيران بمواجهة جادة، وهذا تقريبا هو تفكير وزير الدفاع ماتيس الذي عرضت له في المقال السابق.
ومن هنا تكون حتمية المواجهة مع إيران أمرا واردا جداً في ظل إدارة دونالد ترمب.
حارب مكماستر في العراق في حرب تحرير الكويت، وفي غزو العراق، وكمساعد رئيسي لديفيد بترايوس في العراق. وكسب معركة تلعفر وحصل على ميدالية عليها، وقبل الربيع العربي كان يؤمن بالسيطرة على مساحة داخل سوريا حتى يحدث استقرار في العراق.
ما زال مكماستر يرى الصين وروسيا العدوين المحتملين، ويرى أنهما يحدثان جيشيهما بطريقة أفضل من تحديث الجيش الأميركي. مكماستر يدعو دائماً إلى تحديث الجيش، ولكن ليست على طريقة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي الأسبق. فمكماستر لا يؤمن بنظرية رامسفيلد في تقليص عدد القوات ويرى أن هذا المنهج هو الذي أخر تحديث قدرات الجيش الأميركي، إذ لا يمكن أن تخاض الحروب بسعر رخيص. وهو كان يرى سابقا أن الخضوع لنظريات وزير دفاع مثل رامسفيلد ومكنمارا من دون مواجهتهما بحقيقة الأمور على الأرض هو الذي يؤدي إلى خسارة الحروب.
مكماستر يؤمن بكسب الحروب مثل ماتيس، وفي اعتقادي أن مثلث ماتيس ومكماستر وتيلرسون سيكون له التأثير الأكبر على قرارات دونالد ترمب، ولهذا سنرى مواقف ترمب تتغير تجاه إيران وفلسطين وسوريا واليمن والعراق حسب رؤية استراتيجية متكاملة، يكون مؤلفها الأول جيم ماتيس ومعه مكماستر مضافا إليهما تيلرسون الذي سيسوق تلك الاستراتيجية. أعتقد أن الدولة العميقة في أميركا وضعت فرامل لترمب من خلال هذا الثلاثي العاقل الذي سيرشد قرارات الرئيس، خصوصا في القضايا الكبرى، فمثلا لا أعتقد أن مكماستر سيوافق تحت أي ظرف من الظروف على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. فأيا كانت رغبات ترمب، فإن مكماستر سيشير عليه بغير ذلك.
من خلال معرفتي الشخصية بإتش آر مكماستر، أستطيع القول: إننا أمام رجل عاقل، وعقل استراتيجي متميز ورجل قادر على تحويل النظريات إلى واقع على الأرض. ربما يكون مكماستر أكثر مستشار أمن قومي أميركي يعرف منطقتنا ومتعاطف مع قضاياها، ولكن بالطبع ليس على حساب الأمن القومي الأميركي. وللحديث بقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية