العلاقة مع المسؤول هَمٌ إعلامي كبير
غسان الإمام
ليس هناك ناظم معين للعلاقة بين المسؤول والسياسي والصحافيين والمعلقين السياسيين. فهي تقوم أساسًا على رؤية الأنظمة السياسية للصحافة والإعلام. وهي تختلف حسب موقف الدولة من الحرية السياسية. ومن فهم النظام السياسي لمهمة الصحافة والإعلام.
في النظام المطلق، كما في سوريا وكوريا الشمالية، فمهمة الإعلام والصحافة أن يكونا بوقا للدولة يخدم هيمنتها على المجتمع والرأي العام. والكاتب السياسي والصحافي عندها مجرد ناطق بلسانها. ولا حاجة للمسؤول إلى إقامة روابط ثقة وصداقة مع الكاتب السياسي، وتبادل الرأي معه حول سياسة الدولة والنظام. فالكاتب هنا مجرد «صندوق سمع» للخطاب السياسي. وعليه أن يردده. وممنوع عليه النزول إلى الشارع لتقصي حاجات الناس. أو التوغل في طيات الوزارات والمؤسسات، بحثًا عن الوقائع والحقائق.
لذلك لم ينتج النظام السوري كاتبًا سياسيًا واحدًا على مدى خمسين سنة. وأذكر أن الصحافي أحمد إسكندر الذي حاول أن يكون كاتبًا عامًا يتجاوز رؤية النظام الضيقة للإعلام، سرعان ما خطفه حافظ الأسد. ورسمه وزيرًا للإعلام. فقضى عليه ككاتب وصحافي موهوب.
في الأنظمة الديمقراطية الغربية، ليست هناك وزارة للإعلام تتولى تنسيق العلاقة بين النظام والإعلام. هناك مكاتب إعلامية وناطقون رسميون في الوزارات ذات الأهمية، لهم صلاحية التصريح والتوضيح، بما يخفف من جهامة اللغة السياسية. وقد يختار رئيس الدولة أو الحكومة كاتبًا إعلاميًا ناجحًا. وله علاقاته الواسعة مع الإعلاميين والصحافيين، كبديل لوزير الإعلام.
مراسلو الصحف ووكالات الأنباء باتوا يرافقون رئيس الدولة أو رئيس الحكومة في زياراته الخارجية على حساب الدولة. ومتروك لكليهما أن يختار من هذه البطانة الإعلامية الثرثارة، مَنْ هو جدير بالثقة كصديق ومستشار يُستشار.
وحتى في نظام لا ديمقراطي، فقد استخدم عبد الناصر والسادات صحافيين وكُتابًا لمعوا سابقًا. وتألقوا في عهد النظام الملكي الليبرالي. وعندما كان عبد الناصر يزور سوريا في عهد الوحدة، كان يحرص على أن يرافقه مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل. وكان لا ينام قبل أن يعرف عناوين الصحف الرئيسية التي ستصدر بها في الصباح.
أين النظام العربي من العلاقة مع الصحافة وتبادل الرأي مع الكتاب والمعلقين؟ في الدولة الغربية، هناك مراكز بحوث ترفد الساسة وصناع القرار بدفقٍ لا ينقطع من الدراسات، لا سيما في السياسة الخارجية. الساسة والمسؤولون في الغرب يقرأون. وقد تصبح هذه الدراسات سياسات مقررة للتطبيق والتنفيذ في التعامل مع الدول الأخرى كبيرة وصغيرة.
في العالم العربي، نادرًا ما تتوفر هذه المراكز. وإن توفرت فهي تقتصر على باحث واحد. هو المدير. والباحث. والدارس المدعي الفهم. وبالتالي غالبًا ما يكون رأيه ضعيفًا في التحليل العميق. أو مبتسرًا فقير الاطلاع على المعلومات وحركة الأحداث والتطورات، بسبب غياب العلاقة الوثيقة مع الساسة وصناع القرار السياسي.
هل يقرأ صانع القرار السياسي العربي الصحافة الورقية؟ أو يتابع ما ينشره الإعلام الإلكتروني؟ نعم، هناك من يقرأ. لكنهم قلة ممتازة قليلة جدًا. احد من هؤلاء الذين يقرأون وأقاموا علاقات وثيقة مع صحافيين وكتاب هو العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. وكان أيضًا عبد الناصر. ومعظم ساسة لبنان. وكان أكرم الحوراني.
وكان هناك من لا يقرأ. وفي مقدمتهم ميشيل عفلق. وصلاح البيطار. وقد عاب عليهما عبد الناصر ذلك، عندما وجد أنهما لا يقرآن الصحف اليومية. وكان السادات يقرأ للكاتب الذي يمدحه. وعندما حاول مصطفى أمين، بعد الإفراج عنه، العودة إلى الجامعة الأميركية لتدريس الصحافة، منعه السادات قائلاً: «يكفينا مصطفى أمين واحد».
هل يقيم صانع القرار السياسي والعربي علاقة صداقة. وثقة. وتبادلاً للرأي في المواقف والسياسات، وخاصة في اللحظات الحاسمة والاستثنائية؟ يؤسفني أن أقول إن الصحافي والكاتب السياسي بات يباهي بالاقتراب من المسؤول إن سعى إلى ذلك. لكن لا يجرؤ على نشر ما سمع وعرف من أسرار، كي لا يفقد علاقة «الاقتراب والقربى». فظلت في إطار «العلاقات العامة» كالقول: «قابلنا فلانًا». «وتعشينا مع فلان».
كان سعيد فريحة. وسليم اللوزي. وغسان تويني يعتبرون أنفسهم أندادًا لصناع القرار السياسي. ولعل القراء الذين يتابعون أخبار الصحافيين يذكرون ما دار بين اللوزي وصانع القرار الذي قال له: «أدينا لك ما يكفي لكي تمدح». فأجاب اللوزي بلوذعيته الحادة: «لقد أديت ما يكفي لكي نصمت».
ومن تجربتي الشخصية الطويلة، أذكر هنا فقط علاقتي بالراحل صلاح البيطار. فقد امتدحني أمام زملائي عندما شكل حكومته الانقلابية (1963). وعندما اختلفت معه عطل الصحيفة التي أحررها. وأغلق وكالة الأنباء التي أراسلها. بعد 17 عامًا لحق بي إلى باريس، ليصدر صحيفته (الإحياء العربي)، طالبًا مني أن أساعده، فاخترت له محررين. وكُتابًا. وإداريين. واعتذرت عن عدم العمل. فقد تعودت أن لا أعمل في مطبوعة تصدر لتهاجم نظامًا معينًا.
وبعد، فقلق المجتمعات العربية كبير. فهي تريد أن تعرف ما يدور حول حاضرها الغامض ومستقبلها المجهول، في غمرة تردي الانسجام الإنساني. وقتل العربي للعربي. هناك حاجة إلى مؤتمرات صحافية لكبار المسؤولين. وحوار صريح داخل المجالس النيابية. هناك حاجة لخروج المسؤول من الشاشة التلفزيونية للاقتراب من الناس. وملامسة نبض الشارع والرأي العام.
ماذا قال المسؤولون العرب للرئيس الإيراني حسن فريدون روحاني الذي تحدث في زيارته الخليجية الخاطفة، عن حسن نية في إقامة علاقة صداقة وتعاون مع العرب، متجاهلاً مذابح ميليشيات «الحرس الثوري» و«حزب الله» في سوريا. والصواريخ الإيرانية التي يطلقها عملاء إيران من اليمن على القرى السعودية؟ هل يصدقون الادعاء بأن المشروع الإيراني (لإنتاج قنابل نووية) هو حقًا للأغراض السلمية؟
هناك شائعات تروجها إسرائيل عن حلف عربي – إسرائيلي لضبط تجاوزات إيران، وليس إسرائيل، في المنطقة. فما هو الموقف العربي الرسمي من هذه الثرثرة؟ هل حان الوقت لإعلان فشل القرار الفلسطيني الذي قدم التنازل تلو التنازل، خلال أكثر من مائة سنة؟
الوضع العربي اليوم دقيق وخطير. اللاعبون يضمون أوراق اللعبة إلى صدورهم. هناك ضرورة لإقامة علاقة أعمق وأكثر صراحة بين الساسة والصحافة والإعلام. فقد بات التعليق السياسي شكلاً من أشكال التنجيم. وقراءة بخت النظام في الفنجان، في غياب علاقة العمل التي تربط صناع السياسة بصناع الإعلام والصحافة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية