حياة الحميدية.. (1)
سالم الهمالي
في مثل هذا الوقت في فصل الخريف، يزدحم فيه جدول العمل في السانية (المزرعة)، اذ يلتقي فيه نهاية موسم التمور بجني محصولها وبداية الإعداد لزراعة المحاصيل النباتية مثل القمح والشعير. في ستينيات القرن الماضي نشأت على حياة القرية، حينها لم يصلنا بعد شيء من أثار الحضارة الحديثة، فلا كهرباء ولا تلفزيون ولا طرق ولا جيلاطي، فأقصى ما وصلنا هو مدرسة وشبكة مياة تتغذى على خزان أنشئ حديثا، يوزع مياهه على سبع او ثمان نقاط توزيع (حنفيات) تغطي احياء القرية.
آنذاك، كانت تلك النقلة الحضارية تبدو وكأنها تماثل هبوط نيل ارمسترونغ على سطح القمر بالنسبة للأمريكان وباقي دول العالم المتطور، كيف لا، والحصول على الماء يتطلب ان تسري له في الصباح الباكر بركوب الحمير والتوجه الى آبار جوفية تبعد مسافة عن بيوتنا، لتحصل على حمل برميلين على ظهر الحمار، تعود بهما ماشيا بجانبه، لاستعمالها في الشرب والطبخ والغسيل.
لك ان تتخيل منظر فتح الحنفية على الأطفال، والماء يبزغ منها بقوة لم نعدها، حتى كان يهيأ لنا انها قد تكسر أصابعنا!!
قد لا يصدق البعض ان الحال في ذلك الوقت كان أفضل في أشياء كثيرة، فقبل خمسين عاما كانت السنة الدراسية تبدأ في موعدها، بجدول حصص كاملة، لا نغيب عنها حتى دقيقة، والكتب توزع في اول يوم، ومع ذلك وجبات تغذية بخبز (باناني) ساخن ياتي من مدينة سبها التي تبعد ٣٠ كيلومتر يوميا، وفيه ما لذ وطاب من الطن والشامية والبشماط.
لا يوجد وقت فراغ، فإما في الجامع تتعلم القران او المدرسة لتتعلم الدروس او في السانية تساعد والديك، لا شيء آخر عدا مناسبات الافراح على قلتها التي تستمر أسبوع كامل، او الطهار لثلاثة ايام، وقبل ان أنسى الحضرة في كل ليلة خميس من الاسبوع.
أيامها، كان المدرس هو القدوة في كل شيء، ومعاملة الناس للمدرسين شيء استثنائي، يقدمونهم في الافراح والعزومات، اول قصعة، أفضل لحم، احسن مكان، ولا يجرؤ على الجلوس معهم الا أكابر القوم. بجوار المدرسة يوجد (بيت المدرسين)، لا يقل احتراما ولا تميزا، اذ هو الوحيد عدا المدرسة ذاتها الذي له سقف حديث، مصبوب بالخرسانة والأسمنت، اما بيوتنا فهي من الحجارة والطين ومسقوفة بالسقف والزرب والطين الجيري.
كل الناس يعرفون بعضهم، ويراعون بعضهم كذلك، فلا يمكن ان يلتقي فرح وعزاء في ذات الوقت، فأهل البلدة يفرحون ويحزنون مع بعضهم. من نافلة القول، ان هذا المجتمع الصغير يجعل كل الحركات والسكنات مرصودة، فالخبراء يعرفون الناس من اثر مشيهم على الارض والمساء من رنين خلالخيلهن. ذلك يجعل وقوع الجريمة شيء من الندرة التي يذكرها الناس لسنين.
سأحاول في هذه السلسلة ان ارجع بنفسي الى تلك الأيام، وأرصد حياتنا بكل تفاصيلها، متمنيا ان تجدوا فيها شيء من الذكرى وربما المتعة كذلك.
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك