11 أبريل .. يوم آخر
سالم العوكلي
كان صباح الأحد الموافق 11 أبريل العام 1982 حين وصلنا إلى مقر جامعة قاريونس، فرع البيضاء، في الصباح الباكر، وكان صباحا مشرقا بشمس دافئة بعد أشهر من برد الجبل القارص، واليوم المحدد لانتخاب رؤساء الأقسام في كلية الزراعة. كل شيء طبيعي باستثناء أشخاص غريبي الملامح يسيرون في مجموعات في طرقات الجامعة، يتجمعون ثم يتفرقون مجموعات أخرى تسعى بين مباني كليات التربية والآداب والزراعة، وكل ما تبادر إلى أذهاننا أن ثمة وفداً جامعيا يزور جامعتنا كالعادة .
كنت جالسا على رصيف مع بعض الأصدقاء حين أقبلت مجموعة تسير بسرعة، وحين مروا من أمامنا سأل أحدهم كما سمعته أنا : وين أبطال الزراعة ؟ ورفع الطالب، فرج بوحوش البابا؛ الذي كان يجلس مع صديقيه على الرصيف قبالتنا، يده (عرفت فيما بعد أنه سمع السؤال بالخطأ: وين طلاب الزراعة؟ وأراد مساعدتهم) فما كان من المجموعة إلا أن انعطفت ناحيته، وقف أحدهم أمامه وسأله عن اسمه فأجاب ، وعن مدينته، فقال له من بنغازي، وفجأة صفعه بقوة، وقف فرج البابا ولكمه فوقع على الإسفلت، ودارت معركة بالأيدي بين الطرفين، وخلال دقائق كان أكثر من 20 شخصا يهرعون إلى المكان ويبرحون فرج وصديقيه ضربا ويسحلون رؤوسهم على الإسفلت ، حتى أغمي عليهم. وصلت شاحنة صغيرة وحملوهم كالجثث ورموهم في مؤخرتها وانطلقت خارج الجامعة بسرعة، ارتبكنا ولم نفهم ما يحدث، بعد وقت قصير كان الأشخاص الغرباء ينتشرون في ردهات الجامعة، يدعون الطلاب للتوجه إلى المدرج الكائن بمبنى المكتبة المركزية، وذهبنا على أساس أنه سيٌشرع في انتخاب رؤساء الأقسام، لكن ما حدث قبل قليل كان يثير شكوكا ومخاوف ومازال عصيا على الفهم . عرفنا فيما بعد أن أعضاء اللجان الثورية من جامعات ليبيا ومن بعض مدارسها الثانوية، إضافة إلى كتيبة أمنية شهيرة، قد اختاروا ذلك اليوم لتأديب فرع البيضاء الجامعي الذي كانوا يعتبرونه وكرا للرجعية .
امتلأ المدرج بطلاب وطالبات وأساتذة كل الكليات، وجميعهم متوجسون من هذا الاجتماع ومن حركة الملثمين داخل المدرج، وفجأة دخلت مجموعة كبيرة منهم وهي تهتف : “صفيهم بالدم .. سير ولا تهتم”. يا سبعة أبريل قيمها .. عالمرتدين .. عالرجعيين .. عالحزبيين .. عالشللين .. إلخ، وغيرها من التهم المنتشرة آنذاك تجاه أي شخص خارج اللجان الثورية، ولم يتجاوب معهم كل المدرج، باعتبار أنها نوبة هتاف وستهدأ، لكن الهتافات المرعبة استمرت وأصبحت المجموعات الملثمة ترغم من لا يهتف على الهتاف، ومن يرفض يحملونه يدا ورجلا إلى غرفة بها مجموعة من الفتوات ليعود إلى المدرج والدماء تغطي وجهه وهو يهتف مرغما، وهكذا كان يتكرر هذا المشهد، وعدد الهاتفين يزداد من الخوف، وكل من يتضرج بالدم يضعونه في مواجهتنا على ركح المدرج وهو يهتف، والبعض يضعون بين أيديهم صورة ضخمة للقذافي كي يحملها رغم أنه عاجز عن حمل نفسه من جراء الضرب المبرح .
كنت جالسا على يمين المدرج مع بعض الطلاب في صف يحوي العديد من أساتذة كلية الزراعة، وكان على يساري الدكتور السنوسي بن عامر وبجانبه عميد كلية الزراعة الدكتور عبدالله لعيرج، وكنا مجموعة الطلاب قد وقفنا وأصبحنا نضرب خشب البنش بأيدينا محركين شفاهنا مع الهتافات التي لم نتعود عليها، حين جاء طالبان من غزاة الجامعة وأخرجانا من أجل أن يصلوا إلى الدكتور عبدالله لعيرج لجره إلى الركح كي يهتف،لكن الدكتور بن عامر أوقفهم، فقفز أحد الطلاب أمام د. لعيرج وضربه بكتاب على وجهه لكنه لم يتحرك ولم يهتف .
وفي خضم هذه الفوضى دخل أستاذ التاريخ في كلية التربية، د. عبدالمولى الحُرير، من باب المدرج، وكان طويل القامة ممتلئ الجسم، وحين رأى الدماء والفوضى، قال : ليس هكذا يا طلاب، أجلسوا وناقشوا الأمور بديمقراطية. لكنه لم يكد يكمل جملته حتى احتشد عليه مجموعة من اللجان الثورية وتسلقوه وأنزلوه على الأرض كما ينزل الجمل وهم يدوسونه بأرجلهم. بعد هذه الحفلة من الهتاف والدماء أخرجونا في مسيرة خارج المدرج وكانت المشاهد في الخارج أكثر دموية ، طالبات يضربن، وطالب معاق وملتح يجر من لحيته على الرصيف الذي امتلأ بالدماء، والفوضى في كل مكان، ساروا بنا حتى كلية الزراعة وحين دخلنا جمعونا في باحة المدخل واستمر الهتاف، ثم أخذوا تمزيقا في الإعلانات والجداول المعلقة على الجدار .
كان أحد هذه الإعلانات يدعو الطلاب الأوائل من أقسام كلية الزراعة لإحضار جوازات سفرهم للشروع في إنهاء إجراءات سفرهم إلى دول أوربية مختلفة الذي ترعاه سنوياً منظمة، فاو للأغذية والزراعة، للطلاب المتفوقين في السنة ما قبل الأخيرة.
بعد ساعة تم استدعاء الطلاب الأوائل إلى قاعة في الطابق الثاني، كان عددهم 12 طالباً، وكنت ضمنهم، وحين وصلنا امتلأت القاعة باللجان الثورية وبعض من أعضاء كتيبة الأمن المشاركة والذين تظهر مسدساتهم من تحت ستراتهم، وبدأ زعيمهم في الحديث المليء بالشتائم والكلام المقذع الموجه لنا، ومما قال : أنتم ليس لكم أي نشاط ثوري لذلك فمن الطبيعي أن تتحصلوا على تقديرات عالية، ولو أتينا بحمير تقرأ فقط ولا تشارك في النشاطات الثورية فإنها سوف تتحصل على تقادير ممتاز ، وهل سنبعث حميرا تمثل ليبيا في الخارج … وطبعا الكثير من الكلام البذيء الذي لا أستطيع ذكره احتراما للقارئ، لكن تهمتنا الوحيدة ذلك اليوم هي التفوق والحصول على تقديرات عالية.
بعد أيام وجدنا قائمة أخرى معلقة لاثني عشرة طالبا، معظمهم مازال في الفصل الأول ولم يتخصص بعد، وبعضهم راسب، والبعض متحصل على تقدير مقبول، لكن ما يجمعهم أنهم جميعا أعضاء في المثابة الثورية بالجامعة. ومن ثم أصبحت بعثات الدراسات العليا من مثل هؤلاء، ومُنعنا نحن من إكمال الدراسة أو حتى من الحصول على الترانز كريبت (شهادة التخرج التفصيلية) لمن يرغب في أن يواصل دراسته على حسابه، بينما بعض الطلاب النشطاء فصلوا من الدراسة ولم يكملوا حتى البكالوريوس .
هذا جزء بسيط مما حدث في ذلك اليوم وما شاهدته شخصيا، ولم أذكر بعض أسماء الذين نكلوا بنا لأن ما يعنيني الحدث وليس الأسماء ، خصوصا وأن أحدهم أصبح مستشارا سياسيا لسلطة تشريعية عليا الآن. حدث هذا في الماضي ولا فائدة من استرجاعه سوى أخذ العبرة، خصوصا بعد أن حدثني طالب تخرج بتفوق من درنة لم يتحصل على إيفاد لإكمال دراسته فاقترح عليه صديقه أن ينضم إلى حزب العدالة والبناء مثلما فعل هو من أجل الإيفاد.
من المفترض أن نكون قد تجاوزنا كل ذلك وتجاوزنا المعايير الشخصية أو الأيديولوجية لاختيار الكفاءات، وهذا أحد أهداف التغيير الذي حصل، ولن تقوم لليبيا قائمة ما لم نتخلص من هذا الإرث البغيض، ولن تتقدم ليبيا إلا بالحوار وبالإنصاف وبوضع الكفاءات واجهة دولة مدنية، وليس بالتصفيق أو بالشعارات وبالتغني المنافق بالزعماء وبرفع الصور التي مارسناها أربعة عقود حتى وصلنا إلى الحضيض، فكنا كما الضفادع التي يحملها السيل إلى البحر وهي تزغرد.