بوتين وسياسة “الحجر الثقيل”

بيير غانم

ما يحدث بين واشنطن وموسكو يجسّد الوجه الجديد للحروب والأزمات والتوترات بين القوى العظمى، وهي خليط من الحرب الباردة وحرب السايبر. وحرب السايبر مثل الحرب الباردة لا تشهد مواجهات عسكرية بين جيشي البلدين ولا تهدر فيها الدماء، وتختلف عن الحرب الباردة بأنها تلغي الحدود السيادية وليس فيها حائط برلين.
أكد البيت الأبيض والقرارات الصادرة عن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن روسيا، بما فيها أجهزة الاستخبارات عملت، وبعلم القيادات العليا في موسكو على خرق بيانات الحزب الديمقراطي الأميركي، وبعد ذلك أعطت هذه الوثائق إلى بوابات إلكترونية وسرّبتها بهدف التأثير على المسار الانتخابي الأميركي.
لم يشر الرئيس الأميركي بأي طريقة إلى أن فوز دونالد ترمب ضد المرشحة هيلاري كلينتون كان بفضل الخرق الروسي، لكن بيان البيت الأبيض عن العقوبات أشار إلى أن إدارة الاستخبارات العامة الروسية استعملت أشخاصاً ووسائل تقنية لجمع معلومات وتلاعبت بالمعلومات بهدف التدخّل والتأثير على مسار الانتخابات الأميركية.
بذلك، وجّه الرئيس الأميركي قبل أن يغادر البيت الأبيض بثلاثة أسابيع ضربتين، الأولى ضد روسيا والثانية ضد الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
تفاعل دونالد ترمب مع فرار العقوبات لافت للانتباه، حيث قال في بيان مكتوب “إنه حان الوقت لتنتقل البلاد إلى شيء أكبر وأفضل”. وأكد ترمب أنه سيجتمع إلى قادة أجهزة الاستخبارات خلال الأسبوع الأول من العام، ليسمع منهم عن الحقائق الأخيرة.
كان ترمب تلقّى اتصالاً من الرئيس أوباما، ويبدو أنه أطلعه على قراره بفرض عقوبات قبل أن يعلنه وعندما سأله الصحافيون عن العقوبات قال ترمب إن الكمبيوترات آلات مثيرة.
فلاديمير بوتين لم يكن لديه رد فعل أيضاً، فبعدما اقترح عليه وزير الخارجية الروسي طرد 35 دبلوماسياً أميركياً رداً على طرد عدد مماثل من الدبلوماسيين الروس من الولايات المتحدة، أعلن أنه لن يردّ باتخاذ خطوة مماثلة.
يبدو من هذه السلسلة من التصريحات والإجراءات أن هناك ثلاثة لاعبين حول طاولة الشطرنج بدلاً من اثنين.
أوباما يتصرّف بدافع الضرورة، ويتخذ قرار العقوبات، لأن الخروقات وقعت خلال ولايته كرئيس. ودونالد ترمب لا يريد أن يتحمّل التبعات الدبلوماسية لقرار الرئيس الحالي، خصوصاً أنه ينظر إلى التعاون مع الرئيس الروسي في المجالات الدولية بعدما انهار التعاون الأميركي الروسي منذ اندلاع أزمة أوكرانيا وتدخّل روسيا إلى جانب النظام السوري.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيعطي الانطباع أنه “حجر ثقيل” لا يمكن زحزحته وليست لديه ردود أفعال، فإما أن يقوم بالخطوة الأولى ويحرّك البيدق ويجبر غريمه على رد فعل يحسبه مسبقاً، أو أنه لا يتحرّك وبالتالي لا ينخرط في “لعبة الفعل ورد الفعل”.
هنا يبدو بوتين كأنه غير معني بأفعال باراك أوباما، بل إنه أشرف على التدخّل في الانتخابات الأميركية، ويدير لعبة وقف إطلاق النار في سوريا بدون واشنطن، وبالمشاركة مع تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، والآن ينتظر بهدوء وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
من الخطأ النظر إلى العقوبات الأميركية على أنها “فقط” نتيجة للتدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية، فهناك جزء أساسي من العقوبات يمسّ يفغيني بوغاتسيف، وهو مسؤول عن سرقة 100 مليون دولار أميركي بهجمات السايبر من مؤسسات مالية وشركات وجامعات أميركية. كما أن العقوبات لحقت ألكسي بيلان لسرقته المعلومات الشخصية للمتعاملين مع مؤسسات تجارة إلكترونية.
أما طرد الدبلوماسيين الروس من الأراضي الأميركية فهو ردّ على تصرفاتهم وتتهمهم الحكومة الأميركية بعضهم بأعمال تجسس.
لكن الأهم أن البيت الأبيض يشير إلى أن الطرد يأتي ردّاً على ما تعرض له الدبلوماسيون الأميركيون في روسيا من إزعاج على يد الشرطة الروسية وإدارات الأمن هناك خلال السنوات الماضية.
لا يجب أن ننتظر تغييراً في التصرفات الروسية مع مجيء دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فروسيا تقوم بما تقوم به من هجمات بالسايبر، وإزعاج الدبلوماسين الأميركيين، وتتدخّل في أوكرانيا، وتأخذ جانب النظام السوري، ليس لأن باراك أوباما موجود في البيت الأبيض، بل لأن فلاديمير بوتين موجود في الكرملين.
اللاعب الجديد هو دونالد ترمب وسيرى في 20 يناير 2017 أن الساحة الدولية تحمل آثار الحرب الباردة، والولايات المتحدة لديها فضاء نفوذ يصل إلى حدود روسيا، وبوتين يريد من أي رئيس أميركي أن يقبل بـ”الفضاء الروسي” ويبتعد من الدول التي كانت عضواً في الاتحاد السوفييتي.
حتى ذلك الحين، سنجد تكراراً دموياً لما حدث في أوكرانيا، ونرى هجمات بالسايبر لا تسقط فيها الدماء، بل تسقط فيها “هيلاري كلنتون الثانية” في الانتخابات الرئاسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “النهار” اللبنانية