في زمن التكفير” مسعودة تعرف ربي .. وربي يعرف مسعودة “
محمد الطيب
عشت في زمنين لا يشبهان بعضهما البعض حيث بدأت في استيعاب هذه الحياة في بداية تسعينيات القرن الماضي في وقت لم يكن هناك انترنت أو سوشيال ميديا وعندما يريد أحد أن يخبرني بشيء او ينتقدني وجب عليه الحديث وجها لوجه ليس خلف هاتف أو كوبيوتر، أخبرتني عائلتي أنني مسلم علي أن أكون حسن الخلق باتباع فرائض هذا الدين فأصلي لربي خمس مرات في اليوم داخل البيت ومرة واحدة بالمسجد في يوم الجمعة لا أسرق لا أكذب ولا أغتاب، لم تكن أشياء صعبة في بيئة عائلتي التي تتبع كل هذا ببساطة طيلة طفولتي، الى حين التحاقي بمدرسة قرآنية خلف جامع ” النفاتي ” في مدينة طرابلس أردت حينها أن يكون لي أصدقاء من بيئة تشبه البيئة التي تربيت بها فبدأت بحفظ القرآن داخل الخلوة رفقة مجموعة من الأطفال و الشباب ومن الطبيعي أصبحت أرتاد المسجد أكثر من السابق بحكم وجودي بالقرب منه لتبدأ رحلتي مع نسخ جديدة من الدين لا تشبه النسخة التي تملأ قلبي وإدراكي .
أتذكر جيدا أول موقف جعل من الصور الثابتة في ذهني تهتز عندما وقفت في صفوف المصلين فبدأ أحد الرجال بالصراخ داخل المسجد قائلا ” اتقوا الله اوقفوا كويس ما تخلوش الشيطان يخش بينا ” رغم أنني لم أفهم ما يقول لكن هذا جعل هدوئي ينتهي وبدأت بالشعور بالخوف لأن الأطفال حينها كانوا يعاملون بطريقة سيئة داخل المسجد فمن الممكن وببساطة أن يأتي رجل يأخذ مكانك ويمسكك من قميصك ويدفعك للخلف، وفي لحظة الارتباك أصبح المصلون يحركون أقدامهم لتلتصق ببعضها البعض وأقدام من بجانبي صارت فوق أقدامي الصغيرة لأصبح محشورا بينهم وعيوني متجهة الى فوق لكنها تسترق نظراتها نحو اليمين واليسار.
بعد انتهاء الصلاة ذهبت الى أحد أصدقائي داخل الخلوة الذي كان يشارك في المسابقات المحلية والدولية لتلاوة القرآن لأخبره بما حدث ولأفهم ما المقصود فقال في الصفوف يفضل أن يلتصق المصلون ببعضم البعض لإن الشيطان يدخل بينهم لأسأله مباشرة ” باهي لما نصلي بروحي في شن نلصق ” قال لا أعلم ولكن هذا ما تعلمته فبدأنا في حوار طويل حول العديد من الأشياء لها علاقة بالصلاة أخبرني أن هناك مدنا في ليبيا لا يرفعون أيديهم في التكبير هناك من يجد هذا خطأ وهناك من يتبعه، لم أكن أفهم معنى الإباضية وغيرها من المذاهب وقال أيضا يجب ألا يأخذني تفكيري الى أي شيء خلال الصلاة ” بعد أن أخبرني بهذا أصبحت فعلا أفكر داخل الصلاة حول كيف لا أفكر ! ” ليصعب مفهوم الصلاة كل مرة أكتشف فيها طقوسا جديدا لا أعرفها .
كثرت التساؤلات في نفسي وأصبحت أسأل عن كل شيء له علاقة بديني حتى الأذان كان في الخلوة من يقول أن حَسَن الصوت يجب أن يكون مؤذنا ليرد عليه آخر الأذان يجب أن يكون بسيطا وليس بألحان فهذا حرام، وموسم العاشورة فيه خلاف أيضا هناك أطفال يشاركون وآخرون لا، أما أكلة العصيدة الليبية هي الأكثر جدلا في يوم ” الميلود ” رغم أنها كانت من الطقوس المتعارف عليها لكن هناك بعض الأطفال لا يأكلونها بسبب أن عائلاتهم يؤكدون أنها بدعة، ولأن الأمر تعدى الفهم لجأت لوالدتي في إحدى الليالي لأخبرها بكل ما حدث معي وأسألها ذات الأسئلة علها تنهي هذه الفوضى في ذهني، تركتني أكمل حديثي لتقول لي وهي مبتسمة هل هناك شيء آخر قبل أن أخبرك بحكاية ؟ قلت لها ” أن مش صغير باش تاخديني علي قد عقلي نبي نفهم ” قالت لي اسمع الحكاية ومن بعدها أخبرني بما يدور في ذهنك .
حكاية خيالية غيرت مسار حياتي ورسمت خطا لعلاقتي بديني، اسم الحكاية ” مسعودة تعرف ربي وربي يعرف مسعودة ” وهي عن طفلة في عمر العشر سنوات كانت مع عائلتها في قارب وسط البحر متجهين لصيد السمك ليواجهوا عاصفة قوية أدت إلى تحطم القارب وغرق كل من عليه سوى مسعودة، التي وجدت نفسها على جزيرة صغيرة، عاشت وحدها وكانت تتذكر أن والديها أخبروها بوجود الله لكنها لا تتذكر كيف تصلي له فاخترعت صلاة وحدها حيث كل صباح ومساء تقول ” مسعودة تعرف ربي وربي يعرف مسعودة ” الى وصول سفينة على ضفاف الجزيرة بعد خمس سنوات بها مجموعة من التجار وجدوا مسعودة وحدها بالجزيزة وهي لا تتحدث الكثير فعرضوا عليها الذهاب معهم فأبت، فالجزيزة هي الوطن بالنسبة لها لكنها طلبت منهم تعليمها طريقة الصلاة فعلموها خلال يوم كامل لكن كل واحد منهم كان لديه بعض الطقوس المختلفة قيلا عن الآخر فكان من الصعب لها استعاب كل الفروق، وقبل رحيلهم في اليوم التالي وخلال تحرك السفينة في البحر وجدت مسعودة نفسها لا تتذكر كل ما قيل لها حول طريقة الصلاة بدأت تركض متجهة نحو السفينة فتفاجأوا بمعجزة! حيث أنها تركض فوق مياه البحر، صرخت ” نسيت كيف نصلي “، قالوا لها عودي للجزيرة وصلي كما كنت تصلي ” مسعودة تعرف ربي وربي يعرف مسعودة ” فصلاتك لربك مقبولة .
لا يهم كثيرا الحديث الذي دار بيني وبين والدتي من بعد الحكاية على قدر أهمية ما حدث في داخلي فمن يومها تصالحت مع مفهوم الدين والقيم التي تربيت عليهم بل أصبحت أحترم كل الأديان مهما كانت، وفي الألفية الثالثة وفي عصر السوشيال ميديا التكفير نجده بين منشور وآخر بين رسالة وتعليق يكفرون بعضهم البعض على كلمة على صورة وعلى رأي، يتهمونك بأنك عدو للدين لأنك تحترم دينا آخر مثلا جعلوا منصات التواصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ساحة لنشر مفاهيمهم حول الدين ومنهم من يعتقد أنه وصي على الدين يفرض قواعده المبنية على قال وعن ويفتون في كل صغيرة وكبيرة في حياة الآخرين، لا يستحقون الرد ولا النقاش فقط مر عليهم مرور الكرام طالما أنك لا تؤذي أحدا، وفي علاقتك بربك كن أنت مسعودة .