مقالات مختارة
يعيش الأب
نشر في: 09/06/2019 - 12:28
في منتصف هذا الشهر يحتفل العالم بيوم الأب الذي هو رغم عراقته -إذ تعود فكرته إلى بداية القرن العشرين- فإنه ليس من المناسبات الذائعة الصيت مثل اليوم العالمي للمرأة مثلاً. قد يكون تواضع النبرة الاحتفالية بيوم الأب مردُّها شعور يستبطننا بأن الأب في غنى عن ذلك وأن الأم عاطفية أكثر وتحتاج منّا إلى التعبير لها عن محبتنا، في حين أن الأب هو ذلك الرجل القوي الذي تفصلنا عنه مسافة التقدير والهيبة.
طبعاً نحن أمام تصور صلب للأب حرمه من النظر إليه من بُعده العاطفي واكتفينا بالتركيز على ارتباط صورة الأب بمعنيين اثنين هما: القوة والأمان.
كما ارتبط الأب بالثقافة، فتم توصيف الثقافات المحافظة التقليدية بأنها ثقافات أبوية ومجتمعات أبوية لأن سلطة الرجل هي المهيمنة في المجتمع. وبما أن ثقافة الحداثة قائمة بالأساس على زعزعة أركان ثقافة المجتمع الأبوي عن طريق طرح فكرة عدم التمايز بين الجنسين والاشتغال بشكل أساسي على قيم الأنسنة بشكل عام، غير أن معالجة المجتمعات السائرة في طريق التحديث لظاهرة الهيمنة الذكورية قد أدت إلى تراجع الأبوية بما تمثله من منظومة قيم كليانية وغير فردانية، حيث إن المجتمع الأبوي هو المجتمع الذي يحكمه الرجل، ثقافةً وقوانين اجتماعية.
يبدو لنا أن ظاهرة الأبوية، أي الهيمنة الذكورية في المجتمع لم تنصف الأب الرجل وشكّلته في قوالب جاهزة أهملت عاطفة الأبوة ووجدانياتها، الأمر الذي أثّر على شعرية الأبوة خلافاً لشعرية الأمومة التي بلغت أعالي التعبير.
يمكن القول إنّ تراجع الهيمنة الذكورية في المجتمعات اليوم بنسب مختلفة قد أضعفت بُعد الصلابة في كيفية تمثل الأب، ومن ثمة فإن الرجل اليوم يمارس أبوته على نحو مختلف مقارنةً بآباء الأجيال السابقة، حيث نلاحظ تفاعلية وتبادلية متقدمة جداً بين الآباء والأبناء وتغير طبيعة العلاقة بينهم بشكل كسر قيود ثقافة المجتمع ذي الخصائص الأبوية. حافظت الأبوة على خصالها واكتسبت مع التغير الثقافي القيمي الاجتماعي الحاصل في مجتمعاتنا مرونةً أذكت العلاقة وحوّلتها من علاقات عمودية إلى أخرى أفقية. وفي هذا السياق وحتى نقيس حجم التغيير نذكر أنه بالنسبة إلى أجدادنا كانوا في معظمهم يستحيون من تقبيل أطفالهم أمام آبائهم وإذا حصل فتكون القبلة ومداعبة الطفل في فضاء لا يحضره رب العائلة الكبير، في حين أن العلاقة بين الأب والابن اليوم تعاش بأكثر حرية وأصبح هناك تعبير عن الحب بينهما. بل إنّ تشتت الأم اليوم بين شواغل البيت والعمل والاهتمام بدراسة الأطفال جعل الطفل يهرب إلى أحضان أبيه مُتفادياً تشنج الأم من فرط تعبها ومسؤولياتها. والوظيفة التي يؤديها معظم الآباء اليوم إلى جانب دور الإنفاق طبعاً هي وظيفة الترفيه عن الطفل واللعب معه وأخذه إلى الملاهي، وهو ما أنتج حميمية خاصة بين الأب وطفله، فأصبح الأب مصدر راحة والأم ترمز إلى الضغط والجدية من خلال المبالغة في الاهتمام بالدراسة والواجبات المدرسيّة.
إذن هناك تغيرات في سلوك الأب بين الأجيال السابقة والأب في الجيل الراهن. وهي تغيرات تصب لصالح الأب والابن معاً، إضافةً إلى أنها أضفت اعتبارية من نوع آخر للأب وأطلقت العنان لعاطفة الأبوة كي تتجلى وتظهر وتتكلم وتبوح.
أيضاً يدفعنا الحديث عن يوم الأب إلى مقاربة خاطفة لواقع الخصائص الأبوية في مجتمعاتنا اليوم؛ فصحيح أن المجتمعات الأبويّة لا تزال ذكوريّة وأبويّة وتعاني من تمايز في الأدوار بين الجنسين، ولكن لا نستطيع أن ننكر تراجع هذه الأبوية بفضل إرادة رجال قادة أسهموا من خلال الأفكار الإصلاحية والقوانين والتشجيعات في الدفع بالمرأة إلى إظهار قدراتها وتقوية وظائفها الاجتماعية وعدم حصرها في الإنجاب وتربية الأطفال، أي أنه ليس صحيحاً أن النخب النسائية هي التي قامت بقضم أظافر الخصائص الأبوية وفرضت الشراكة والمساواة بل إن الإرادة الفكرية السياسية أسهمت في التخفيف من حدة الخصائص الأبوية ومنحت المجتمع فرص الاستفادة من الجنسين والنظر بعينين اثنتين والتنفس برئتين.
فمجتمعاتنا اليوم رغم كل مظاهر الهيمنة الذكورية هي مجتمعات أقل أبوية وهيمنة ذكورية مما كانت عليه، إلى درجة أن البعض بات يتحدث عن تأنيث الثقافة. وهو حديث يحتمل المبالغة أكثر من الصواب لأن مكاسب المرأة ليست اقتطاعاً من مكتسبات الرجل التاريخية، وكل ما في الأمر أن الثقافة القائمة على قيم الحداثة هي ثقافة تقدّس الفرد وتدافع عن حريته وتلحّ على علوية العقل، ومن ثم فالحداثة تنصف المرأة ولا تهدف إلى إنتاج ثقافة مؤنثة أو أخرى ذكورية، وإذا كان لا بد من الحديث عن تأنيث ما بدأ يدب في ثقافة المجتمعات الأبوية فذلك كي يقاوم المساحة الذكورية الشاسعة لا غير.
إنّها أفكار خاطفة سريعة أخذنا إليها يوم الأب لنخلص إلى الهتاف: يعيش الأب.
طبعاً نحن أمام تصور صلب للأب حرمه من النظر إليه من بُعده العاطفي واكتفينا بالتركيز على ارتباط صورة الأب بمعنيين اثنين هما: القوة والأمان.
كما ارتبط الأب بالثقافة، فتم توصيف الثقافات المحافظة التقليدية بأنها ثقافات أبوية ومجتمعات أبوية لأن سلطة الرجل هي المهيمنة في المجتمع. وبما أن ثقافة الحداثة قائمة بالأساس على زعزعة أركان ثقافة المجتمع الأبوي عن طريق طرح فكرة عدم التمايز بين الجنسين والاشتغال بشكل أساسي على قيم الأنسنة بشكل عام، غير أن معالجة المجتمعات السائرة في طريق التحديث لظاهرة الهيمنة الذكورية قد أدت إلى تراجع الأبوية بما تمثله من منظومة قيم كليانية وغير فردانية، حيث إن المجتمع الأبوي هو المجتمع الذي يحكمه الرجل، ثقافةً وقوانين اجتماعية.
يبدو لنا أن ظاهرة الأبوية، أي الهيمنة الذكورية في المجتمع لم تنصف الأب الرجل وشكّلته في قوالب جاهزة أهملت عاطفة الأبوة ووجدانياتها، الأمر الذي أثّر على شعرية الأبوة خلافاً لشعرية الأمومة التي بلغت أعالي التعبير.
يمكن القول إنّ تراجع الهيمنة الذكورية في المجتمعات اليوم بنسب مختلفة قد أضعفت بُعد الصلابة في كيفية تمثل الأب، ومن ثمة فإن الرجل اليوم يمارس أبوته على نحو مختلف مقارنةً بآباء الأجيال السابقة، حيث نلاحظ تفاعلية وتبادلية متقدمة جداً بين الآباء والأبناء وتغير طبيعة العلاقة بينهم بشكل كسر قيود ثقافة المجتمع ذي الخصائص الأبوية. حافظت الأبوة على خصالها واكتسبت مع التغير الثقافي القيمي الاجتماعي الحاصل في مجتمعاتنا مرونةً أذكت العلاقة وحوّلتها من علاقات عمودية إلى أخرى أفقية. وفي هذا السياق وحتى نقيس حجم التغيير نذكر أنه بالنسبة إلى أجدادنا كانوا في معظمهم يستحيون من تقبيل أطفالهم أمام آبائهم وإذا حصل فتكون القبلة ومداعبة الطفل في فضاء لا يحضره رب العائلة الكبير، في حين أن العلاقة بين الأب والابن اليوم تعاش بأكثر حرية وأصبح هناك تعبير عن الحب بينهما. بل إنّ تشتت الأم اليوم بين شواغل البيت والعمل والاهتمام بدراسة الأطفال جعل الطفل يهرب إلى أحضان أبيه مُتفادياً تشنج الأم من فرط تعبها ومسؤولياتها. والوظيفة التي يؤديها معظم الآباء اليوم إلى جانب دور الإنفاق طبعاً هي وظيفة الترفيه عن الطفل واللعب معه وأخذه إلى الملاهي، وهو ما أنتج حميمية خاصة بين الأب وطفله، فأصبح الأب مصدر راحة والأم ترمز إلى الضغط والجدية من خلال المبالغة في الاهتمام بالدراسة والواجبات المدرسيّة.
إذن هناك تغيرات في سلوك الأب بين الأجيال السابقة والأب في الجيل الراهن. وهي تغيرات تصب لصالح الأب والابن معاً، إضافةً إلى أنها أضفت اعتبارية من نوع آخر للأب وأطلقت العنان لعاطفة الأبوة كي تتجلى وتظهر وتتكلم وتبوح.
أيضاً يدفعنا الحديث عن يوم الأب إلى مقاربة خاطفة لواقع الخصائص الأبوية في مجتمعاتنا اليوم؛ فصحيح أن المجتمعات الأبويّة لا تزال ذكوريّة وأبويّة وتعاني من تمايز في الأدوار بين الجنسين، ولكن لا نستطيع أن ننكر تراجع هذه الأبوية بفضل إرادة رجال قادة أسهموا من خلال الأفكار الإصلاحية والقوانين والتشجيعات في الدفع بالمرأة إلى إظهار قدراتها وتقوية وظائفها الاجتماعية وعدم حصرها في الإنجاب وتربية الأطفال، أي أنه ليس صحيحاً أن النخب النسائية هي التي قامت بقضم أظافر الخصائص الأبوية وفرضت الشراكة والمساواة بل إن الإرادة الفكرية السياسية أسهمت في التخفيف من حدة الخصائص الأبوية ومنحت المجتمع فرص الاستفادة من الجنسين والنظر بعينين اثنتين والتنفس برئتين.
فمجتمعاتنا اليوم رغم كل مظاهر الهيمنة الذكورية هي مجتمعات أقل أبوية وهيمنة ذكورية مما كانت عليه، إلى درجة أن البعض بات يتحدث عن تأنيث الثقافة. وهو حديث يحتمل المبالغة أكثر من الصواب لأن مكاسب المرأة ليست اقتطاعاً من مكتسبات الرجل التاريخية، وكل ما في الأمر أن الثقافة القائمة على قيم الحداثة هي ثقافة تقدّس الفرد وتدافع عن حريته وتلحّ على علوية العقل، ومن ثم فالحداثة تنصف المرأة ولا تهدف إلى إنتاج ثقافة مؤنثة أو أخرى ذكورية، وإذا كان لا بد من الحديث عن تأنيث ما بدأ يدب في ثقافة المجتمعات الأبوية فذلك كي يقاوم المساحة الذكورية الشاسعة لا غير.
إنّها أفكار خاطفة سريعة أخذنا إليها يوم الأب لنخلص إلى الهتاف: يعيش الأب.