يسقط بس…!
فرج عبدالسلام
السودانيون شعبٌ عريق، تشكّل من خليط من العرب والأفارقة بمختلف أجناسهم، لكنّ الأهمّ من مسألة الأعراق المختلطة التي يتميز بها شعبُ السودان، هي الثقافة السياسية العالية عند العامة، والإيمان العميق بفكرة التعددية السياسية، والديموقراطية الحديثة. وهو الأمرُ الذي لم يُتحْ لشعوبٍ عربية عديدة، سواء تلك التي انخرطت في مسار “الربيع العربي” أو التي ما تزال تكابد شتاء طويلا قاسيا.
ولأن نظرتي للسودان كما تقدّم، لطالما تملّكني العجب من قدرة حاكم مستبدٍّ ما، على الهيمنة على هذا البلد الشاسع، والمتعدد الهويات. لكن يجب الاعترافُ أنّ مرّد ذلك قد يكون تعرّض السودان للكثير من التجارب والتطوّرات في محيطه الأفريقي والعربي، منذ انقلاب الفريق عبود، عام 58 على السلطة المدنية بحجة إنقاذ البلاد من تفاقم الخلافات بين الأحزاب السياسية، إلى أن أطاحت به ثورة أكتوبر الشعبية عام 64. وهكذا تجرّع الدكتاتور من كأس المرارة نفسها التي سقاها لغيره. انقلابُ عبود على النظام جاء تحت شعار تصحيح المسار، وحماية البلد، وغير ذلك من الشعارات التي لا يملّ العسكرُ من رفعها لتبرير خروجهم على الحكومات المنتخبة، والسيطرة على مقاليد الحكم، لينتهي الأمر دائما بالوبال على شعوبهم. ولأن السودان مختلفٌ، كما أسلفت، فما جرى فيه حتى الآن مختلفٌ أيضا عن باقي العرب، لأن العسكر كانوا ولا يزالون مدعومين بتيار إسلاموي متشدد، انحسر وأفل نجمه في أقطار كثيرة، لكنه تبقى له اليد الطولى هناك، حتى وإن ساهم النظام المتسلّط في انفصال نحو ثلث البلاد، ومقتل أكثر من مليونين في الحروب الداخلية، ونشوب صراعات عرقية عميقة، وتدهور الحالة الاقتصادية. هذه الأخيرة كانت ذريعة الخروج إلى الشارع بعد أن فاض الكيل، وتهديدَ نظام العسكر الذي فشل “كعادتهم دائما وفي كل مكان” في تنفيذ أي إصلاحات اجتماعية أو اقتصادية، بل يمكن القول بوثوقية عالية أن الأوضاع تدهورت في عهدهم إلى ما يقرب من الحضيض. ومرة أخرى لأن السودانيين مختلفون، فلم ينجرّوا، حتى الآن، إلى الأخطاء التي وقعت فيها شعوبٌ أخرى، حيث رفع المتظاهرون شعارات وطنية تحدوا بها كل النعرات الإقصائية والعنصرية.
الرئيس السوداني الحالي، جاء إلى الحكم على ظهر دبابة، وانقلب على الحكومة المدنية الديموقراطية، وله في السلطة ثلاثون عاما فقط. لكن من الواضح أنه استمرأها كما فعل غيره من قبل، ولهذا كان السعيُ الحثيث من قبل البطانة المستفيدة لتعديل الدستور ليبقى أعواما إضافية يعلم الله عدَدها، فالتجاربُ في محيطه العربي والأفريقي مشجّعةٌ، رغم كل الثورات والانتفاضات من الشعوب الحيّة. والسببُ بسيطٌ، وهو أنّ هؤلاء المتسلطين لا يقرأون التاريخ، بل لا يقرأون أصلا، ولو فعلوا لأخذوا العبرة واتعظوا بمصائر أقرانهم.
في محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأثناء خطابه المهادنِ نسبيّا بالأمس، لم نر الزعيم يؤدي رقصته المشهورة بعصا التبختر التي عُرف بها، والتي رأى فيها كثيرون رسالة للسودانيين مفادها “إما أن أحكمكم، أو أضربكم..” لكن هذه المرة كان أكثر اتزانا، واعترافا بمطالب الجماهير، بالرغم من إطار التبرير الذي غُلّف به الاعتراف. ومع ذلك لم تغب عن أذهاننا المقارنة البدهية مع خطابات المستبدين العرب التي ألقوها مُرغمين في أيامهم الأخيرة، بعد أن فاتهم القطار.
من واقع تجربة قاسية عاناها الليبيون مع مستبدٍّ قفز إلى السلطة فوق دبّابة، فظل متمسكا بها حتى شاخَ، وظنّ أنه ملك البلاد، ما فوقها وما تحتها، فعاث فيها فسادا ما يزال الاضطراب الحالي شاهدا عليه.. نقول مع شعب السودان “يسقط بس..” ولكن خذوا العِبرة من تجربتنا المريرة!