يحق لنا أن نكره ليبيا لأننا نحبها
سالم العوكلي
هل كانت مصادفة تاريخية أم جغرافية أم محض مصادفة أن أولد في أرض كانت رغم حبي لها قاسية إزاء كلما حلمت به؟ وطاغية في توجيه خياراتي أو معظمها بعكس ما كنت أرغب، وكأن لهذا المكان الذي نال استقلاله قبل ميلادي بعشر سنوات قدرٌ أرضي يسوقني رغما عني إلى مآلات ما كنت لأختارها لو كنت بكامل قواي الإنسانية.
عمري الآن ستون عاما عشتها في أرض لم يتوقف فيها اجتياح الظلام والجفاف بيتي بسبب انقطاع الكهرباء والماء، طرقها متهالكة وخالية من مقومات السلامة إلا من البوابات الأمنية التي ما برحت تتكاثر على إسفتلتها بكل تقنيات الرعب لتحل بمبانيها الخراسانية بدل مراكز الإسعاف السريع أو رادارات تحديد السرعة أو لافتات للتحذير التي تحمي حياة الإنسان من الحوادث التي يموت أو يتضرر جراءها الآلاف. تلك البوابات التي ما فتأت تثير الرعب في العابرين لسنين طويلة حتى وإن كانت إجراءات عبورهم سليمة، خصوصا فترة التجنيد الإلزامي وانتشار الشرطة العسكرية وبراميل النفط الفارغة الملونة بالأحمر والأسود، وطبعا لا يقارن الرعب بما حصل حين استولى المتطرفون والدواعش على هذه البوابات وأصبحت كمائن للخطف والابتزاز والقتل.
كم حلمت أن أركب قطارا في هذا الوطن المترامي الأطراف، وحلمت بمحطات أنيقة أحتسي في مقاهيها القهوة وأنا في انتظار قطاري متصفحا جريدة اليوم، لكن لعقود لم نسمع إلا بحديث متصل عن قطار الموت القادم. وكم حلمت أن اركب باخرة بين مدنه الساحلية المعطلة موانئها عن مهمة التواصل بين أجزاء هذا الوطن والإسهام في التنمية ونقل البضائع بدل طوابير الشاحنات المتراصة على طول الطريق الساحلي المتهالك، فالبحر طريق مرصوفة لم تستثمر يوما في هذا البلد المتوجس تاريخيا من البحر ولم يعد سوى طريق للموت تشقه القوارب المطاطية للهاربين من الجحيم إلى جنة الضفاف الأخرى التي تحترم فيها حقوق الإنسان وكرامته.
كم حلمت أن أسير على رصيف نظيف دون أن أتعثر بحفرة أو كيس قمامة أو بضاعة مكدسة أو كتل لحم تتدلى من معاليق صدئة، ولربع قرن عشت في مدينة هي إحدى حواضر ليبيا لا يوجد بها علامة مرور ضوئية واحدة ولا مصعد ولا حديقة عامة. حلمت أن تتاح لي فرص أكثر للتحديق في ملصقات الأفلام على واجهة دور سينما محترمة، وبالمناسبة سأروي حكاية آخر فيلم حضرته في سينما التاجوري بمدينة درنة العام 1979 قبل أن تختفي دور السينما من هذه الأرض تماما، حيث كنت وقتها أقيم مع أخي في شقته في درنة بشارع الجيش قبل أن يتزوج، وجاء صديقي وقريبي، صالح نجيب، إلى الشقة، وبعد حكايات لا تخلو من الطرافة هز نقودا معدنية في جيب بنطلونه، وأغراه صوت رنينها بأن يقترح أن نذهب للسينما بهذه النقود، قطعنا تذكرتين في مقعدين في المنتصف، وبعد دقائق أظلمت الصالة وبدأ عرض فيلم الكاوبوي (الدستة القذرة) ، وكنت وقتها بل ومازلت مغرما بأفلام رعاة البقر، لكن بعد حوالي نصف ساعة من بدايته توقف الفيلم فجأة وأُشعلِت الأضواء، لنكتشف أن عشرات من رجال الشرطة العسكرية قد اقتحموا صالة العرض للتفتيش والقبض على أكبر قدر من الشبان الذين معظمهم لم يكن يحمل بطاقة الوضع العسكري لأنه لم يتوقع ان تدخل البوابات إلى هذا المكان المرتبط بالترفيه والغبطة، لكن الأمر كان ملحا في وقتها بسبب اشتعال حرب الحدود الجنوبية والحاجة إلى مزيد من الحشد الشعبي لهذه الحرب التي تخاض في صحراء مترامية. كنت وقتها في العطلة الصيفية بعد إتمامي للمرحلة الثانوية، وكان من المفترض أن يكون الطلاب يحملون بطاقات (مؤجل) فيما يخص التجنيد الإجباري، لكن ظروف الحرب لم تتجاوز هذا الاستثناء فقط لكنها نقلت مدارس ثانوية بأكملها إلى ميدان الحرب بعد أن غيرت تسمية مؤسسات التعليم من (مدارس) إلى (ثكنات). كان قريبي الذي عرض فكرة الذهاب إلى السينما ضابطا في الشرطة يتمتع بمواهب في توليد الفكاهة والتعليقات المرحة والجرأة على إرباك الآخرين. التفت إلي وسألني: معك أوراقك؟ وحين أجبته بالنفي مسك يدي وانطلق بي إلى الباب الجانبي في السينما فوجدناه مقفلا بجنديين عملاقين من الشرطة العسكرية، فسلم على أحدهما أو عانقه بالأحضان وسأله عن أحوال العائلة وأخباره، ولم يعطه فرصة للتبين، ثم أشار إلى اني معه فسمح لنا الجندي المرتبك بالخروج، وأمام السينما كانت تقف حافلات عسكرية ضخمة، وكان الشبان ينقلون إليها. وبالطبع في تلك الظروف سيجد بعضهم نفسه في الخطوط الأمامية للمعارك وحتى وإن لم يحمل السلاح في حياته يوما، ولا أعرف ماذا حدث لهم وربما بعضهم قتل هناك أو تاه في الصحراء وآخر ما يذكره من وطنه مشاهد النصف ساعة الأول من فلم الدستة القذرة، وربما فكر لحظتها في الدستة من الضباط الذين شكلوا أول مجلس لقيادة الثورة، الثورة التي حولت الداخل إلى ثكنه والحدود إلى جبهات وكل الآخرين إلى أعداء ومتآمرين على الثورة التي التصقت بها صفة العظيمة.
حلمت أن أكمل دراستي في الاختصاص الذي لم أختره برغبتي، ولكن رغبتي في بعثة إلى خارج ليبيا كانت في الأساس مدفوعة برغبة في أن أجيد اللغة الإنجليزية، لأن تعلم لغة أخرى كان رغبتي منذ البداية ولكن شاء القدر أن مدرسة فرج بوحويش ببلدة القبة التي قرأت فيها المرحلة الثانوية لم يكن بها قسم أدبي وهي المدرسة الوحيدة المتاحة لي في ذلك الوقت بعد أن ألغت سياسات النظام السابق، لأسباب أمنية، الأقسام الداخلية في المدارس الثانوية التي كانت تستقبل أحلام فتيان القرى بإكمال دراستهم، قبل أن تقفل الأقسام الداخلية حتى في الجامعات.
حلمت أن أسافر إلى دولة أوربية ولو لمرة واحدة، وكل الفرص التي أتيحت لي عبر دعوات مهرجانات شعرية في فرنسا وألمانيا سويسرا لم استطع تلبيتها لأن كل إجراءات الحصول المعقدة على الفيزا تتم من طرابلس، وتحتاج إلى أكثر من رحلة، وكنت لا أملك ثمن تذكرة الطيران ولا إقامة في فندق هناك، وحكاية مهرجان المتنبي في سويسرا كانت تختلف لأني كنت في طرابلس وقتها حيث وفر لي صديقي أحد طلاب دفعتي الذي اصبح أمينا (وزيرا) للزراعة إقامة في فندق ونزريك الجميل على حسابه الشخصي. كان المهرجان قد بدأ منذ يوم، وذهبت إلى السفارة السويسرية بعد أن اتصل بي رئيس المهرجان الشاعر العراقي علي الشلاه وأبلغني أنهم تواصلوا مع السفير واتفقوا على أن ينهي أجراءاتي بسرعة، وحين وصل دوري وبعد أسئلة غريبة أهانني الموظف الليبي في شباك السفارة السويسرية الذي كنت أراقبه وهو يعامل من وصلوا قبلي بطريقة مهينة شعورا منه أنه يقف على باب الجنة السويسرية، وكنت طيلة فترة مراقبتي له احتشد بغضب يتراكم، وحين قلل أدبه علي رميت الأوراق في وجهه وأسمعته حتى ما لم يخطر على بالي وانسحبت، كان برفقتي الصديق الفنان والكاتب رضوان بوشويشة الذي هُرع إلى الشباك وأكمل موجة الغضب طالبا منه أن يعتذر، وفي طريق خروجنا شجعني على أن لا أعود بعد أن لحق بنا بعض الموظفين، وسرنا في شارع بن عاشور وهو يعبر عن امتنانه لأني طيلة الفترة التي كنت فيها في طرابلس كنا نتسكع يوميا بين شوارعها ومقاهيها. قلت لموظف السفارة قبل أن أرمي الأوراق في وجهه: إذا كنت تعتقد أنك واقف على باب الجنة فبالنسبة لي الجنة هي هذه الخرابة التي خلفي (ليبيا). ولأني كنت مصمما فلن أُحمّل أحدا آخر غيري عدم زيارتي لأوروبا إلا العناد الذي توافق في لحظة غضب مع عناد رضوان ونشوته باللحظة.
بعد فترة ذهبت إلى مهرجان الخريف في مدينة هون الجميلة، وحين التقيت بالصديق أحمد الفيتوري؟ قال لي: هل هناك أحد عاقل يرفض الذهاب إلى ربيع سويسرا والسفير يركض خلفه ويذهب إلى خريف الجنوب؟ وبالطبع أعرف أن الفيتوري لو كان في الموقف نفسه لفعل أكثر مني لكنه وجد في الأمر نوعا من الطرافة لم يفوته.
حلمت أن أشارك ولو لمرة في انتخاب رئيس بلادي ولو لمرة واحدة كما يحدث في كثير من دول العالم الثالث، ولن أتحدث عن العالم الأول أو الثاني، ويبدو أني بعد ستين سنة لن أحقق هذه الرغبة.
حلمت بعد فبراير بوطن مختلف نتعايش فيه ونبنيه على أساس ديمقراطي نستمتع فيه بحقوق المواطنة والحرية والرفاه لهذا الشعب القليل في إحدى أغنى الدول، ولكن الأمور جرت بعكس ما يرغب كل ليبي بسيط لا يريد الدخول في زحام الياغمة، وبالتالي أدركنا أن المشكلة ليست فقط في النظام ورأسه ولكنها أبعد من ذلك وإنْ شاركت أربعة عقود من حكم مجنون مهووس بقتل الأحلام في ولادة أجيال لم يتربوا في كنف القانون، أو يمارسوا عادة ديمقراطية واحدة، أو يحسوا بانتماء لهذه الأرض التي جردتهم من كل مشاعر طبيعية تجاهها. بل أن هذه الأجيال دُفع بها لمقت ثلاثة رموز للوطن والانتماء: النشيد الوطني والراية ومنتخب كرة القدم الذي كرهوه بعد أن أصبح (فريق الساعدي). حلمت أن يحصل نادي الأهلي بطرابلس الذي كنت أشجعه على كأس أفريقيا بعد أن وصل إلى المباراة النهائية مع الأهلي المصري، لكن أمرا صدر من باب العزيزية بانسحاب فريقي المفضل من المباراة. وحلمت بأشياء كثيرة بعضها نسيته وبعضها يصعب ذكره، ومازلت أحلم مع يقيني أن المصادفة التاريخية والجغرافية لن تقوى على تحقيق أحلام كثيرة في آخر هذا العمر. أما أبنائي فلن أحلم بالنيابة عنهم لأن لهم أحلامهم المختلفة شرط أن يدركوا أن الأحلام لا تُنتظر كما فعلنا ولكن لابد من العمل على توفير بيئة لها واستحلابها بالجهد كما تستحلب المطر من السحاب المهاجر.
أما أنا، فبعمر الستين مازلت أكتب عن أهمية الدستور وعن بناء الدولة وعن طرق للتخلص من القمامة والحفاظ على الغابات وعن البلاك آوت وانقطاع الكهرباء وارتفاع سعر الخبز والتقليل من ارتفاع المطبات الإسمنتية على الطريق العام، ومازلت أكتب في السياسة عموما، وكل هذا لم يكن أبدا ضمن أحلامي ولم أحلم به أو أرغب حتى في أن أكون كاتبا يوما ما، وحتى الآن لم أملك نسخة من الكتب الرديئة التي نشرتها لأنني أكرهها.
في أرض تتحقق فيها الكوابيس باتقان وتنطفي الأحلام تصبح الحياة صعبة، لكن ما الذي يجعلني أحب هذه الأرض وأنا ألعنها؟ سؤال معقد أجيب عليه بعبارة قالها الصحفي الألماني المستقل توخولسكي فترة النازية “نحن نملك الحق في أن نكره ألمانيا لأننا نحبها”. ربما هذا ما يفسر شعور غالبية الليبيين الذين يكيلون الهجاء لبلادهم لكنهم يستشيطون غضبا لو أهانها شخص من خارجها، وربما ينطبق المثل الليبي الذي يقول: ندعي على ابني ونكره اللي يقول آمين. أكره بلدي وأكره من يكرهها فأكره نفسي.