وين بيـها يا سي فايـــز؟
د.محمد محمد المفتي
بشيء من الدهشة وكثير من التســاؤل، استقبل الليبيون إعلان الممثل الأممي السابق ليون، بالصخيرات، لإسم السراج كرئيس للحكومة تحت مسمى مجلس رئاسي. لكـن قامة المهندس فايز الفارعة، وأول خروج له من بوســته بذهابه إلى جامع ميزران، كانا مبعـثا لتـفـاؤل لم يـدم طـويلا.
لا أعتقد أنني التقيته أو حادثته. لكنني لا أسـتبعد رؤيتـه في بيت المرحوم والده مصطفى السراج، حين كنت أعــد كتابي “السعداوي والمؤتمر.. بين التمجيد والنسيان”. وإذا كان فايز صموتا كما يبدو، فإن المرحوم والده كان متحدثا طاغيا وشيقا في جلساته. كما كان المرحوم الحاج مصطفي رجلا حـداثيا. درس بالمدارس الإيطالية في ثلاثينيات القرن الماضي، ونجح في امتحانات تأهيل الليبيين، وعمل مذيعا في إذاعة طرابلس العربية، وبعد الحرب العالمية الثانية التحق بالمؤتمر الوطني بزعامة البشير السعداوي، وكان أحد مرشحي المؤتمر في مدينة طرابلس، ودخل البرلمان معارضا. لكن السعداوي تـم نـفـيــه، إبان أول انتخابات نيابية (فبراير 1952). وكان أن التحق مصطفىَ السراج بحكومة مصطفى بن حليم كوزير للزراعة، وبعد ذلك تفرغ للعمل المشاريعي بنجاح، وسجل اسمه في تاريخ وجغرافية مدينة طرابلس تحت اسم “تقسيم السراج”.
الأسبوع الماضي، أطل السيد فايز السـراج على الليبـيين بمبادرة ، ليست بخارطة طريق كما وصفها البعض، وإنما مجرد أمنيات كالتي تتـردد كثيرا على صفحات التواصل على النت. النقطة المثيرة، كانت دعوته إلى انتخابات، وهو ما اعتبره البعض ردًا على تحذير كان قد أطلقه المشير حفتر بشأن نهاية فترة الرئاسي في ديسمبر القادم. وفعلا قال السراج في ما بعد إنه يحاول تحاشي نشوء فراغ، لكن منتقدوه اعتبـروا الدعـوة إلى انتخابات محاولة لاكتساب تمديد لبقائه بالسلطة. وطبعا نبه الكثيرون للمفارقات والمخالفات “الدستورية”. لكن الجدل القانوني والمبالغة فيه، هـو للأســف أحـد مظاهر”متلازمة فـبــراير” ، في حين أن البلاد بحاجـة إلى حلول عملية. ثم إن “مؤسـسـات السلطة القائمة، تفتقد جميعا “للشرعية” بما فيها المجلس الرئاسي نـفـسه. لكن أســوأ ما في خطاب السيد فايـز، هـو خـلــوه من أي مقترحات عملية، بمثابة آليات للسيطرة على الفوضى وترميم إنقســامات إدارات الدولة، وتخفيف مـعـاناة المواطن.
كلنا نتمنى تطـهـير الشارع من الســلاح، فلا اسـتقرار ولا أمن في الشارع والمصارف وحقول النفط بل وفي لجان امتحانات المدارس، ما دام هـذا الوبــاء منتشـرا. لكن بلوغ هذه الغايات مســتحـيل .. مسـتحيل، بدون إعادة بناء جيش وشرطـة. وكان من المـفـروض أن يكون ذلك، المهمة الأولى للمجلس الرئاسي. لكنـنـا الآن أمام أمر واقـع جـديد.. فثمة جيش وطني، غالبيـتـه من ضباط وجنود الجيش الليبي السابق، ويبـســط ســيطرته على ثلثي التراب الليبي، تحت شــعار محاربة الإرهـاب. بل ويطـمـح إلى دخـول العاصمة طرابلس. وقد حـاول السراج الوصـول إلى تقارب مع المشير حـفـتر، حين التقـيا في الإمارات، لكن من الواضح أن أقــدامَ الرئاسي ليست على أرض صلبة وإنـما على رمال متـحـركـة. ولا يجب أن ننسى أن السياسـة وإدارة الأزمــات تــعـني في نهاية الأمر التعامل مع ما يـســتـجد ومع التوازنات المتـغـــيرة كما هي على الأرض، لا كما نتـخـيلـهـا.
يا مهندس فايز، لقد تحاشيت كثيرا مخاطبتك طيلة السنة الماضية، لأن الإفصاح موجـع وكذلك السـكـوت. والمآخـذ عليك وعلى مجلسك كثيرة، ولا يبدو أنك تدرك حقيقة رأي رجل الشارع وأن معظم الليبيين طيبون لا يتقاتلون ولا ينـهــبون. وأنك لم تسـتطع التواصل مع وجـدانـهـم ومطـالبهم المشروعة. كما أنك لم تـزر قراهم ومدنهم، لتشاركهم في مشاهد طوابير السيولة، والغلاء والحياة بدون كهرباء. ولم تطيب خـواطـر بنغازي التي عانت الآمرين، والجنـوب المهـدد، وبني وليد المنسية وجبل نفوسـة القـلـق.. إلخ.
إن دعوتك لاجـراء انتخابات تعكس هـذا التـوهـان، فالوضع الأمني وخاصة في طرابلس يحول دون انتخابات حـرة، وإن أجريت فستكون نتائجـهـا مشـوهـة، وســتنـتـهي إلى التأقطـبــات الحالية المتناحرة. ولا ننسى أن نسبة غير المشاركين في اللعبة السياسية وصلت في انتخابات البرلمان إلى 70%.
وأخـيــرًا، لا أخفي خشيتي من أن السراج الإبن سـيأخـذ مكانته في تاريخ ليبيا في هذه الحقبة، لا بفضل ما حقق، وهو ضئيل ومخيب، وإنما بما كان عليه أن يحقق، وفشل في تحقيقه. لقد كانت أمامه فرصة تاريخية، فقد حـاز تأييد المجـتــمع الدولي ومجلس الأمن. لكنه لم يستثمر ذلك الدعم. بل اعتمد السيد فايـز على الكلمات والتصريحات غير القابلة للتحقق والتي يبدو أنها لطمأنـة الدول الأوروبية بالدرجـة الأولى.
فهل سيكون خطاب السراج هـو النــداءُ الأخـيــر للإقــــلاع؟
د. محمد محمد المـفــتي
بنـغــازي، 19/7/2017