وهمٌ حائر في خيال عابر
عبد الرحمن شلقم
فلسطين منذ بداية القرن الماضي كانت أم الصفقات وأباها. مسيرة الحياة السياسية بعد الحرب العالمية الأولى رسمت خرائط القادم الرهيب. بريطانيا أعلنت بفعل العمل اليهودي العالمي إعلامياً وسياسياً ومالياً وعدها لليهود بإقامة وطن قومي لهم بفلسطين.
اتفاقية «سايكس بيكو» دار حولها الكثير من الأقوال والتحليل، وصفت بالمؤامرة الكبرى التي قسمت العالم العربي. في الواقع لم تقسم تلك الاتفاقية سوى الشام الذي كان كياناً واحداً تحت الحكم التركي. لم يكن لها أي تأثير على الخليج أو بلدان المغرب العربي. حرص البريطانيون أن تكون فلسطين من نصيبهم وتنازلوا عن سوريا للفرنسيين الذين أخرجوا الملك فيصل من دمشق، ونصبّوه ملكاً على العراق. تلك كانت «صفقة التاريخ». السياسة وبخاصة الدولية سوق تحركها قوى متغيرة. الحرب العالمية الثانية صنعت دنيا جديدة غير مسبوقة في التاريخ. زالت مدرسة الاستعمار التقليدي الإمبراطوري الذي سيطرت فيه فرنسا وبريطانيا على أكبر المساحات في الكرة الأرضية.
المعاناة التي عاشتها البشرية جراء الحرب العالمية الثانية ولَّدت منظومة ووعياً إنسانياً جديدين. مساحات ميادين المعارك، ونوعية الأسلحة الجديدة، حجم الضحايا وكميات الدم، وقوة الدمار، تغلغل أثرها في أعماق النفوس. بعد الحرب برز في العالم قوة جديدة لأول مرة، وهي قوة الإعلام والرأي العام. ضربت القوى اليهودية موعداً مع هذه القوة الجديدة، وظفت المعاناة التي لحقت باليهود بفعل النازية لتحويل وعد بلفور لليهود بوطن قومي في فلسطين إلى وثيقة ـ عاملة.
منظمة الأمم المتحدة التي ولدت من رحم الحرب الثانية، وأخرجت من دنيا السياسة الدولية المولود الأول الذي أنجبته الحرب العالمية الأولى وهو عصبة الأمم، المنظمة الجديدة كانت الأداة التي صنعها المنتصرون ليديروا عبرها العالم الجديد. أصبحت غرفة العمليات العالمية لإدارة القادم.
كانت أغلب البلدان العربية تحت الاستعمار المباشر أو غير المباشر. القوة السياسية الغائبة رافقها قدرات محدودة في إدارة الشؤون الدولية بحكم نقص الخبرة لدى العناصر القادمة، التي تدير كيانات حديثة وهي الدول.
المنظومة اليهودية الدولية التي ساهمت عناصر كثير منها في العمل العسكري أثناء الحرب العالمية الثانية، وخبرتها التي استمدتها من وجودها في أميركا وأوروبا مكّنتها من أن تضع الملف اليهودي فوق مائدة الأمم المتحدة التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين، وكان ذلك ـ صفقة الزمان ـ رفض العرب القرار وتوجهوا نحو خيار المواجهة العسكرية، التي خسروا فيها ما قدمه لهم قرار التقسيم. وتوزع بقايا الجسد الفلسطيني بين مصر والأردن. غابت القضية الفلسطينية سنوات عن موائد المحافل الدولية، وبقيت ناقوساً يدق المشاعر العربية الشعبية.
غولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل السابقة، قالت يوماً: لا توجد أرض اسمها فلسطين، ولا شعب اسمه الشعب الفلسطيني. بعد هزيمة العرب في حرب 1967، استولت إسرائيل على كل فلسطين التاريخية بما فيها القدس الشرقية، اعتقدت إسرائيل أن قضية فلسطين قد طويت صفحتها إلى الأبد، وأن إسرائيل حققت حلمها التاريخي الذي استمر آلاف السنين. المقاومة الفلسطينية المسلحة التي ولدت من مرارة الهزيمة، وفرضت نفسها قوة فاعلة على الأرض الفلسطينية والعالم، وضعت إسرائيل أمام ظاهرة لم تكن يوماً في الحسبان بعد انتصارها على الدول العربية. حركة فتح أعادت تأسيس المعادلات السياسية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل وفي العالم. عندما رفضت الولايات المتحدة دخول ياسر عرفات إلى نيويورك للحديث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتقلت المنظمة إلى مقرها في جنيف للاستماع له. كانت تلك الانعطافة الدولية التي ألقت بأقوال غولدا مائير إلى قارعة الفراغ.
صفقات فلسطين، كانت جزءاً من الزمان. هناك حيث التاريخ والتراب والدين والمعاناة تخلق عجينة الأسطورة، التي تتجلى في كل حقبة بدم جديد وسلاح مبتكر سياسياً وعسكرياً. منذ قيام دولة إسرائيل لم تتوقف المبادرات لإيجاد حل لأزمة تفرض نفسها على الدنيا بأسرها. كلما اعتقد القريب والبعيد أن الكائن الفلسطيني قد خبا وذهبت ريحه، ينفجر شظايا سياسية وعسكرية وإنسانية ملتهبة.
قضية بدأت منذ سبعين عاماً، لكنها لا تغادر كل المحافل الدولية. اليوم تبقى طازجة وكأنها بدأت منذ سبعين ساعة فقط. لقاء أوسلو ـ الصفقة الكامنة ـ كان التعبير الأقوى عن حضور القضية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. العناوين المؤجلة، القدس واللاجئون والاعتراف بالدولة الفلسطينية، قفزت عليها الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين على يد متطرف إسرائيلي. ذلك الحادث الحدث كشف مدى قوة الأسطورة في الوعي واللاوعي اليهودي.
هل كان بين الراحل ياسر عرفات ورابين ترتيبات جنتلمان سرية على الصفحات الخلفية لاتفاق أوسلو؟ مسبحة الصفقات حول القضية طويلة جداً. أغلب رؤساء الولايات المتحدة مدوا أصابعهم إلى خريطة نارها، وبخاصة جيمي كارتر وبيل كلينتون وأوباما، لكن الجيش السياسي اليهودي في أميركا كان سلاحه أقوى. أوروبا أرسلت عتاة السياسيين وكذلك الأمم المتحدة وروسيا. قدم العرب مبادرتهم التي تتضمن رؤية واقعية لحل القضية، لكن الوهم الإسرائيلي المغالب تجاهلها. قبل ذلك قدمت صفقات من قبل إسرائيل حول الوطن البديل.
قدم معمر القذافي كتابه الأبيض بعنوان «إسراطين»، والرئيس أنور السادات عمل أن يشمل الحل السياسي في اتفاقية كامب ديفيد القضية الفلسطينية. كانت رياح الإنسان الفلسطيني البسيط أقوى من كل الصفقات، هو صفقة الزمان التي تبقى طازجة فاعلة لا تشيخ.
مشكلة الساسة الأميركيين أنهم يعتمدون في كثير من الأفكار المتعلقة بالقضايا الخارجية على مراكز البحوث، والساسة المتقاعدين الذين لا يبحرون بعمق في تعقيدات القضايا. ويقيمون الأمور من منظور منظوماتهم القيمية، الكثير منهم ينحون إلى المقاييس البراغماتية.
من يتحدث اليوم في أميركا عن تحويل قطاع غزة إلى منطقة حرة، تزدهر فيها التجارة، يتدافع الناس نحو المال وحياة الاستهلاك، لا يدركون قوة فعل الدين والتاريخ والتراب الذي أنتجت عجينته كيمياء الأسطورة في نفوس الأجيال المتعاقبة. لم يدركوا عبور القضية الفلسطينية للحدود، حيث تفعل فعلها في كل العرب والمسلمين. في إندونيسيا، وباكستان، وماليزيا، والهند، وأفريقيا، تعتبر القدس جزءاً من العقيدة.
وعندما يقترح البعض أن يكون جزء من سيناء امتداداً لكيان غزة، يتجاهلون حقيقية قريبة عاشوها، لقد قاتل المصريون عسكرياً وسياسياً من أجل تحرير سيناء، وقاتلوا قانونياً من أجل استعادة مساحة صغيرة من الأرض اسمها طابا.
القوة الأسطورة هي بقاء الشعب الفلسطيني فوق أرضه، الصفقة العاجلة هي استعادة الوحدة بين غزة ورام الله. الدين والتاريخ والأرض تصنع الصفقة الأبدية التي تغلب دوائر الزمن.