ومخاطر اللعب بالنار
جمعة بوكليب
من الصعوبة بمكان أن يحافظ المرء، هذه الأيام، على تركيزه، ولا تحيد عيناه عن الكرة، لأن قواعد اللعب تغيّرت، وبدلاً من كرة واحدة، كما تقتضي اللوائح، امتلأ الملعب بكرات من كل الألوان والجنسيات.
الحرب الدائرة في ضواحي العاصمة الليبية منذ 6 أشهر يستحيل على الليبيين وجيرانهم تجاهلها. هناك، أيضاً، حرب «البريكست» الدائرة منذ أزيد من 3 سنوات، وسرعة تقلباتها، تطوراتها مؤخراً تجعل من غير الممكن تحويل الأنظار عنها. هناك الانتخابات النيابية والرئاسية التونسية، وما لحقها من تطورات، وإلى مصلحة أي من القوى السياسية المتنافسة ستحسم الأمور… وماذا عن الوضع في الملعب العراقي، وما حل بأبنائه الذين ضاقوا بالفساد والاستيطان الإيراني؟ وكيف يمكن تجاهل المعركة الدائرة في واشنطن بين الرئيس ترمب وخصومه الديمقراطيين الذين يريدون إسقاطه؟
فمن أين لنا بعيون إضافية كثيرة، كي نتابع ونركز على الكرة التي دخلت أرض الملعب، مؤخراً، بركلة تركية مُعلنة بداية حرب أخرى، وقودها هذه المرّة الأكراد في شمال سوريا، وحلمهم التاريخي في تأسيس دولة.
التقدم العلمي جعل من الممكن على الناس، في مناطق العالم المختلفة، مشاهدة وقائع حربية حقيقية، تجري أمامهم، وهم جالسون في بيوتهم، وعلى الشاشات أمامهم، يتابعون أناس أبرياء يقذفون من الجو بصواريخ مهلكة، أو يحملون ما خفّ حمله من متاعهم ويجرون هاربين من موت يلاحقهم على شكل قواذف وقنابل مدفعية. الغزو التركي، مؤخراً، لأراضي شمال سوريا، كان منقولاً مباشرة، على شاشات التلفاز. طائرات حربية تحلق. مدافع أرضية تقصف. أعمدة دخان تتصاعد سوداء كثيفة من عدة أماكن.
الجبال، يقول الأكراد في أمثالهم المأثورة، هي الصديق الوحيد لهم. الجبال، فعلياً، وتاريخياً، هي الملجأ الآمن الذي يلتجئ إليه الأكراد في أوقات المحن، وهم مطمئنون إلى أنها لن تغدر بهم، ولن تدير لهم ظهورها، متخلية عنهم، كما فعل أصدقاؤهم وحلفاؤهم الأميركيون مؤخراً.
الجبال هي التي كانت، دوماً، خط الدفاع الأخير، الذي يتحصن به حلم الشعب الكردي المشرد في إنشاء دولة له، بعلم ونشيد ودستور وجيش وشرطة وسجون، مثل غيرهم من شعوب العالم.
الصمت، والتجاهل، أو البيانات الرسمية المنددة، جميعها، لن تجعل حكومة أنقرة المعتدية تعيد النظر في قرارها بالغزو، أو أن تصدر أوامرها لوحداتها العسكرية الغازية بالتوقف والعودة إلى معسكراتها، لأن الفيتو التركي ضد إقامة دولة كردية ما زال ساري المفعول، وسيظل، دائماً، حافزاً أمام حكومات أنقرة، لوأد أي محاولة كردية في مهدها، تهدف للحصول على حكم ذاتي، فما بالك إقامة دولة!
حكومة أنقرة، لم ترسل وحداتها العسكرية الغازية، قبل أن تمهد أمامها الأرض، سياسياً، مع الدول المعنية بالصراع في سوريا، وتحديداً، أميركا، وروسيا، وإيران. فلواشنطن أولوياتها، وتركيا مقارنة بالأكراد، أولوية وحليف يعتمد عليه. ولموسكو حساباتها وأهدافها في تمديد مساحات نفوذها في سوريا وتثبيت وجودها في المنطقة على حساب الغريم الأميركي المنكمش. ولطهران مخططها في أن تكون القوة الإقليمية التي لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها. طهران، منذ أول حرب شنت ضد العراق، حتى الآن، هي الرابح في كل الحروب التي اندلعت في المنطقة. فالحرب ضد العراق، خلصتها من عدو لدود، نظام البعث في بغداد. والحرب في أفغانستان خلصتها من نظام «طالبان».
عصفوران بحجر واحد، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة. وها هي ترى الجيش التركي يقوم نيابة عنها بالتخلص من قوات الأكراد السنّية، ويعزز من فرص توطيد النفوذ الإيراني في سوريا، والمنطقة عموماً، ويحول مخطط الهلال الشيعي إلى واقع.
تركيا، استناداً إلى تقارير المحللين، تتحرك وفق حسابات تقتضيها مصلحة الدولة، ومصلحة الحزب الحاكم، والأهم مصلحة إردوغان الشخصية، ممثلة في الاستمرار في مسك كل الخيوط في يده، وتحريكها. عليه، فإن تركيا ستتمكن من التخلص من أكثر من مليوني لاجئ عربي سني سوري، بحشرهم فيما سمته منطقة عازلة، وهي أراضٍ سورية كردية، الأمر الذي قد يتسبب في تغيير الواقع الديموغرافي بمحاولة تعريبها، وتحويلها إلى جدار عازل يحول بين وصول المقاتلين الأكراد، والمتطرفين الإسلاميين أيضاً، إلى أراضيها. أضف إلى ذلك أن من أهداف الحملة العسكرية أن تقود إلى رفع أسهم حظوظ إردوغان الهابطة شعبياً.
التخلي الأميركي عن الأكراد، مؤشر لما يحدث في أروقة واشنطن، من تغيرات، وما يدور في البيت الأبيض من مراجعة للحسابات السياسية، على بُعد سنة تقريباً من الانتخابات الرئاسية. وتصريحات الرئيس ترمب التي رافقت قراره بالتخلي عن الأكراد، قد تكون رسالة مقلقة، لكنها ذات مغزى، ودعوة ضمنية لكثير من الدول الحليفة، لإعادة النظر فيما كان يعتبر سابقاً من الثوابت في علاقاتها بواشنطن.
انعكاسات الغزو التركي الأخير لن تكون عابرة، بل ستخيم نتائجها بظلالها سلبياً على المنطقة، لفترات طويلة مقبلة، وتركيا لن تكون في مأمن من تلك العواقب.