ولاعة أبي واجتهاد أمي
عمر أبو القاسم الككلي
أول ما انتبهت إلى ما حولي، كان أبي يدخن التبغ العادي الذي يلف بالورق الأبيض الرقيق الناعم، الخاص. التبغ يحفظ في علبة معدنية فضية اللون، مزودة بمكان خاص في الوجه الداخلي لغطائها يحجز ورق اللف. كنت أحب أن أراقبه وهو يأخذ قش التبغ ويرتبه بعناية على الورقة المفرودة، ثم وهو يلفها ويقفلها. كان يقفل الجهة التي ستحترق قفلا تاما، ويترك الجهة التي سيسحب الدخان منها مفتوحة قليلا، وذلك بتمرير لسانه عليها، كي تتماسك باللعاب.
لاحقا، أصبح يدخن نوعا من السغائر المصنعة ذات علبة بيضاء عريضة، حسب ما أذكر، اسمها “رايس”. كان ثمنها قرشان. لكن أوقف تصنيعها، فلجأ إلى نوع أغلى اسمه “جفارة” ثلاثة أرباع العلبة ذات لون أحمر والربع الأسفل أصفر اللون ومصور عليها جواد يشب على قائمتيه الخلفيتين يمتطيه فارس بالزي الوطني. كان ثمنها أربعة قروش. ثم أضيف إليها المصفي القطني وارتفع سعرها إلى رقم لا أذكره.
كان أبي يستخدم في إشعال سجائره الكبريت أو الولاعات أو جمر الكانون. ومن بين الولاعات التي استخدمها أتذكر ولاعة معينة، لأن لي معها حكاية طريفة.
كانت ذات لون فضي ناصع، صغيرة الحجم أنيقة الشكل، وثقيلة نسبيا. غطاؤها منفصل ومن النوع التقليدي القديم الذي توضع أسفله قطنة تنقع بالبنزين.
في أول زيارة لأسرتي لي بعد اعتقالي بأكثر من ثلاثة أشهر، وعند انقضاء وقت الزيارة، قال لهم الضابط المسؤول عن قسم سجناء الرأي:
“- خلوله كان عندكم حاجة، ملابس أو دخان أو ماكلة.
فقال أبي:
– ما جبناش ماكلة لأنا مش عارفين مسموحة و الا ممنوعة. و الدخان هو ما يدخنش”.
وفعلا لم أكن مدخنا (معتمدا).
“سحبت أختي حقيبة من تحت الكرسي الذي كانت تجلس عليه و قالت:
– جبناله حوايج.
حين تناول الضابط الحقيبة وفك أسنانها المتشابكة، كان أو ل ما بان عليه صندوق ورق مقوى من علب تبغ روثمان. لم أنظر إلى أبي لأستطلع مدى الارتباك الذي يمكن أن يكون قد اعتراه بسبب ظهوره بمظهر من انفضح كذب إفادته. و من المؤكد أنه سخر من نفسه و لامها على تسرعها.
لابد أن أمي هي المسؤولة عن وضع علبة التبغ تلك، من وراء ظهر أبي، لاعتقادها أن أفضل طريقة يمكن أن تمتص توتر واغتمام السجناء هي انهماكهم في التدخين”*. وما أكد لي أن الأمر كله كان من اجتهادها، وجود تلك الولاعة التي كانت مهملة في البيت منذ سنوات مديدة، لأنها كانت عاطلة عن العمل.
* ما بين أقواس التنصيص “…” مأخوذ من كتابي “سجنيات”.