وجع الحصادي وحكاية أبولقمة
نجيب الحصادي
ما إن حاولت أن ألملم من الجمل ما يليق بمقام هذا الرجل، في ضميري وفي وطني، حتى وجدت نفسي كأني “زهرة خرساء لم ترزق براعة منشد”. الألفاظ التي أردت بها التعبير عما يجول في الخاطر، تخون حرارة الأنفاس ودفء المشاعر، والعبارات التي تلفظن الأشجان عصية علي البيان، والأفكار التي تترجم ما أكنّ له من احترام وتقدير، “كأن بها حياءً”، فليس تزور إلا في الظلام.
ولأن خشِيت أن يستدرجني الكلام إلى كلف البلاغة، والبلاغة كما يقول درويش “تجرح المعنى وتمدح جرحه”، فكرت في الصمت. قلت لنفسي لا شيء يناسب هذه القامة كصمت المحاريب؛ فلعل في وجيب القلوب ما يغني عن لغط الشفاه. لكني ما لبثت حتى عدَلت عن فكرة الصمت، فلا ريب في أن في هذا الجيل الطالع من لا يعرف أن بلادا بأسرها تدين له بالكثير، وأن ثمة قيما جديرة بالتأسي تجسدت في شخصه الكريم.
وأول ما يقال بحقه هو كونه شخصيةً أكاديمية، بما لدينا من عذر لاستخدام هذا التعبير الذي طالما لاكته الألسن في غير مواضعه. وحسبه لنيل هذا اللقب المهيب أنه من رواد التعليم العالي في بلادنا، وأنه ترأس جامعة، وجمعية علمية، ومجلة أكاديمية، وأنه أعد وألّف وترجم عشرات الكتب والأبحاث والدراسات.
وثاني ما يقال هو أنه أبرز ثقات الجغرافيا في بلادنا، بل هو جمال حمدانها، الذي أدرك عبقرية مكانها، وخبَر منازلَ أعلامها؛ وهو عميدها وعرّابها، فجل أساتذتها إن لم يتلقًوا علمها على يديه، فقد تلقَّوه على من تلقًاه على يديه. ويشهد على ذلك أنه ما أن تتفكر مؤسسة أكاديمية، محلية أو دولية، في عقد ندوة لها صلةٌ بمُناخ ليبيا أو تضاريسها أو سكانها أو مواردها الطبيعية أو البشرية، حتى يكون اسمه أول ما يخطر على البال، فمجرد اشتراكه فيها يكفُل منح الثقة في رصانة أعمالها.
وثالث ما يقال هو أن اسمه اقترن أيضا بمواقف مشرفة لا تساوم على الوطن. والوطن عنده ليس مجرد فضاء تصادف أن عاشت فيه مجموعة من القبائل والعشائر، بل رمز لقيم إنسانية سامية، والدفاع عنه إن هو إلا دفاع عن الكرامة البشرية.
حين كنا طلابا كان، على مهابته، قريبا منا، يتردد ما وسعته السوانح على محافلنا العلمية والأدبية والفنية. وحين أصبح تلاميذُه زملاءه في الجامعة، استشعروا الأسى الذي كان يعصف بقلبه بسبب ما يحدث في البلاد من خراب كاد يأتي على ما أمضى نضير العمر منكبا على دراسته؛ زرعِ البلاد وضرعها، وحجرِها وبشرها. كان الألم يعتصره وهو يشهد ثروات البلاد تهدر في أرجاء العالم، وهو يرقب سوس الفساد ينخُر في عظامها، وهو يرى عقولَها تُغيّب إما بالسجن أو الهجرة أو الانكفاء على الذات.
وأشد ما كان يؤلمه ما آل إليه حال الجامعة التي شهِد فجرها وضحاها، وعاصر مجدها وذياعَ صيتها. وفي حكاية هي وشاية بمبلغ حرصه عليها، يروى أنه حين كان يترأسها، مرّ على طلاب يتكئون بمناكبهم على جدار خشبي في أحد أروقتها، فقال لهم إن مواضع مناكبهم، إذا دأبوا على الاتكاء بها على الجدران، سوف تخلّف فيها بقعا تفسد نضارتها. ولنا أن نتصور كيف كان حال من كان هذا قدر حرصه على الجامعة حين أصبحت محفلا لأعراس الدم تنصب فيه أعواد المشانق، وحين أمست ساحة للقتل والسحل، تدور فيها المعارك والحروب.
يقول المتنبي: أفاضِلُ النّاسِ أغراضٌ لذا الزّمَنِ، يخلو مِنَ الهَمّ أخلاهم من الفِطَنِ. ولعمري كان الهادي غرضا نبيلا لذا الزمن، ولعمري ما خلا يوما من همّ على الوطن. رحمه الله رحمة واسعة، لما أسدى لبلادنا من عطايا، ولما كف عنها من رزايا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
