واشنطن ـ موسكو… عدو في الزاوية
إميل أمين
مع ظهور هذه الكلمات للنور يتوقع أن تكون الاعتقالات الرسمية جرت على الأراضي الأميركية لشخص أو أكثر متهمين بشكل علني من قبل المدعي العام الخاص الأميركي روبرت مولر، والمكلف التحقيق في تدخل الروس رسمياً في الانتخابات الأميركية الرئاسية السابقة. ورغم التكتم الشديد على شخوص المتهمين فإن إدارة فلاديمير بوتين في تقدير الأميركيين اليوم باتت هي المسؤولة بشكل رسمي عن الأمر برمته، ما يعني أن مسؤولين روساً كباراً سوف توجه إليهم الاتهامات، ما يجعل العلاقات ما بين موسكو وواشنطن تدخل دائرة غير مسبوقة من الصراع السياسي والأخلاقي العلني.
يستلفت الانتباه على هامش التوترات السياسية بين البلدين حدوث تصعيد نووي لم يشهد العالم مثيلاً له منذ نهايات الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، فبحسب موقع «Defense one» المعني بشؤون الدفاع الأميركية، فإن واشنطن وضعت قاذفاتها بعيدة المدى من نوع «B – 52» في حالة تأهب، أي أن تكون جاهزة طوال ساعات اليوم الأربع والعشرين لأي عملية عسكرية بمجرد تلقي الأوامر.
على الصعيد المقابل، كان الأسبوع الماضي بدوره موعد رسالة روسية لا تخطئها العين، بعث بها بوتين بنفسه إلى الغرب عامة، وأميركا خاصة، عندما ضغط أزرار أربعة صواريخ باليستية تطال أميركا وما وراءها، ضمن مناورات للقوات الجوية الفضائية بالمشاركة مع الأساطيل الروسية وأسلحة الدفاع الجوي.
يحمل الأميركيون لا سيما قطاع المجمع الصناعي العسكري وجماعة الاستخبارات للروس مشاعر غير طيبة، فقد أثبت الروس مؤخراً مهارة واضحة في ملء الفراغات التي خلفها باراك أوباما، ولهذا يعملون على قدم وساق على الثأر من موسكو عبر حدودها الغربية، عبر ألوية دبابات أميركية في بولندا أو صواريخ في غيرها من دول أوروبا الغربية وبعض دول أوروبا الشرقية السابقة، ولا يزال الارتكان إلى إشكالية أوكرانيا، أداة وذريعة تحاول من خلالها واشنطن تحديداً الاقتراب من حدود الدب الروسي.
وما بين المشهدين هناك حقيقة مؤكدة لا مناص من الاعتراف بها، وهي أن العالم الآن أضحى أقل أماناً نووياً من زمن الحرب الباردة، وهذا ما أقره المجتمعون في المؤتمر السنوي السري للمعارضة النووية في لوكسمبورغ نهايات أكتوبر (تشرين الأول)، والمؤتمر ثمرة عمل الثري اليهودي فياتشيسلاف موشيه كانتور، ويجتمع كل عام في عاصمة دولية مختلفة لمناقشة أفضل السبل لدفع قضية نزع السلاح النووي، وخبراؤه من علماء الفيزياء النووية والدبلوماسية ورجالات الأمن.
ضمن النقاشات التي حفل بها منتدى لوكسمبورغ هذا العام ما ذهب إليه ويليام بيري، وزير الدفاع الأميركي في عهد بيل كلينتون، من أن خطأ غير مقصود، بشرياً أو ميكانيكياً، يمكن أن يحدث حرباً نووية بين الروس والأميركيين لطالما تجنبها الجميع بعد الحرب العالمية الثانية، لكن التوترات الحديثة، سيما نية دونالد ترمب الخاصة بتحديث الترسانة النووية الأميركية بأسلحة أصغر حجماً وأيسر نقلاً وأكثر فتكاً، ربما جعلت الروس يعلنون على الملأ مشاهد لصواريخ «إسكندر» و«سامارات»، بعضها كفيل بإبادة دول كبرى في أوروبا، ناهيك بغواصات نووية روسية جديدة ما أنزل الله بها من سلطان.
السؤال المثير للتأمل ما بين أفعال روسيا وردود فعل واشنطن والعكس، هل يسهم الطرفان في مزيد من الفوضى العالمية التي نعيشها منذ عقدين تقريباً وحالة اللانظام الدولي التي عرفها العالم، عبر أقطاب تكاد تكون متعددة ومتباينة التوجهات؟
المسألة الكارثية في المشهد الدول الآني هو صعود دول وأقطاب تجيد فن التلاعب على المتناقضات، وبالتحديد ما بين موسكو وواشنطن، ولعل طهران تحديداً هي أكثر الأطراف الإقليمية التي عظمت الاستفادة من الحالة «الإنتروبية» التي تعيشها واشنطن – ترمب في تهديدها وترغيبها لموسكو – بوتين، والناظر إلى التصريحات الإيرانية الأخيرة بشأن النية في استمرار تطوير الصواريخ الباليستية يدرك أن هناك كواليس خلفية لتضامن وتضافر جهود دول أخرى تدور في فلك روسيا والصين مثل كوريا الشمالية، ما يزيد المشهد الدولي تعقيداً، رويداً رويداً، حتى الوصول إلى لحظة الانفجار التي سيسقط فيها خلال ساعات ما تكبده العالم من ضحايا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
ما لا يريد العم سام إدراكه هو أن روسيا ما بعد السوفياتية، قد عادت إلى مقدمة المسرح الدولي، كما يقول أندريه غراتشيف، مستشار غورباتشوف والمؤرخ الروسي، وأخذت الدبلوماسية الغربية على غرة، وأضحت عنصر تغيير كبيراً شأن المشهد الجيو – استراتيجي العالمي.
الذي تابع كلمات بوتين في منتدى فالداي الأخير، وحديثه في المناورات، يوقن بأن الرجل يعلن صراحة رفض موسكو فكرة النظام العالمي أحادي القطبية، وفيه تم تقزيم روسيا بما لا يتلاءم ولا يتفق مع حضورها الحقيقي ووزنها الاستراتيجي عالمياً.
توجهات أميركا تجاه روسيا تدفعها إلى التخلي عن الفكرة الأوراسية، وفيها يمكن أن ترى أوروبا حليفاً، إلى العكس، فتعمد إلى تكوين كتلة معادية للغرب مع الصين، وتكون أفقاً للتموضع كناطق رمزي باسم الدول الناشئة.
على ترمب الذي يفتح ملفات كيندي هذه الأيام أن يسترجع الدرس الذي استخلصه كيندي من أزمة كوبا عام 1962.
«إياك أن تحشر عدوك في الزاوية»… لأن البديل ببساطة أنه سينفجر فيك وفي نفسه… هل ينبغي أن يعاود الأميركيون التعاطي بهذا المعيار؟