هل هذه هي نهاية العولمة؟
فؤاد السنيورة
إنها قضية جذبت انتباه واهتمام خبراء الاقتصاد وقادة الدول خلال السنوات الأخيرة، ألا وهي: مستقبل العولمة. وهي من القضايا المطروحة للنقاش في وقتها المناسب والملائم للتأمل والنظر، مع الدعوة إلى استكشاف السبل ووسائل الاستعداد للسنوات المقبلة. وتثور التساؤلات بشأن مستقبل العولمة في الوقت الذي بدأ العالم من حولنا يجابه مجموعة جديدة من المفارقات.
ومع حقيقة أن العولمة والاتصالات الحديثة تجعلان من العالم مكاناً أكثر ترابطاً، فإن المجتمعات قد صارت أكثر تجزؤاً من ذي قبل. وعلاوة على ذلك، صارت التوترات بين البلدان وداخل البلاد أكثر تفشياً وانتشاراً. وهي تسافر من دون «تأشيرة» كما سبق أن أشار الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الراحل كوفي أنان، كما أنها تتكاثر كمثل «إنفلونزا الطيور» لتنشر الاضطرابات والاشتباكات في كل مكان، ومن ثم تسفر عن المزيد من الهجرة والنزوح، الأمر الذي يخلق الصدمات الحضارية والثقافية. وتغذي هذه الصدمات الثقافية في نهاية المطاف الحركات اليمينية المتطرفة والنزعات الشعبوية الراديكالية. وهذا بدوره ينعش من آفاق التطرف، وكراهية الأجانب، والشوفينية، والتوجهات العنصرية التي تنجب ردود الفعل العكسية التي تزيد من وتيرة التطرف، والعنف، والإرهاب.
أثار مستقبل العولمة المشاعر الخاصة لدى الدول المتقدمة والبلدان النامية على حد سواء، لا سيما مع اقتراب مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ورغم ذلك، ومع استمرار حالة المناقشة والحوار، يبدو أنه في حين أن الاتجاه نحو العولمة بات يواجه الهجمات القوية في الغرب، فمن غير المرجح أن نشهد لذلك نهاية قريبة. وما نراه على وجه الحقيقة، هو انتشار للأفكار الشعبوية التي تتودد إلى مشاعر الجماهير وتعزف على غرائزها القومية. والنتيجة الحتمية المتوقعة هي المزيد من الانعزالية والتطرف، اللذين إن تركناهما من دون ضابط، يمكن أن يقودا الركبان إلى الصراعات الدولية الكبرى، واندلاع موجات الإرهاب، وربما نشوب الحروب المدمرة.
وجاء في الكلمة التي ألقاها الرئيس الصيني شي جينبينغ في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2017: «صحيح أن العولمة الاقتصادية قد خلقت المشكلات الجديدة. إلا أنها ليست مبرراً كافياً لشطب العولمة الاقتصادية بالكلية من الأجندة الدولية للأمم. عوضاً عن ذلك، ينبغي علينا التكيف والمواءمة لقيادة ركب العولمة، وتفادي آثارها السلبية، والاستفادة من فوائدها الجمة لكل البلدان والأمم. كما ينبغي علينا الالتزام بمواصلة تنمية الاقتصاد العالمي المفتوح»، انتهى كلامه. وفي تقديري الشخصي، فإن الاقتصاد المفتوح يصب تماماً في صالح الدول المتقدمة والبلدان النامية.
وفي المنتدى ذاته، أكدت السيدة كريستين لاغارد، المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي، ضرورة تقاسم فوائد العولمة بقدر أكبر من الإنصاف إنْ أريد لها البقاء والاستمرار. وواصلت التأكيد على كلمتها السابقة في المنتدى نفسه قبل أربع سنوات حال تحذيرها من الآثار المترتبة على عدم المساواة. غير أن الاستجابة المنتظرة يجب ألا تكون بالنكوص إلى الخلف، أو الانكفاء على الذات، كما قالت. وإنني أذكر مقولتها: «هناك ما يقرب من 3.6 مليار نسمة حول العالم يتطلعون إلى دخل أفضل، وإلى وجبة غذائية مرتين فقط يومياً، وربما مرة واحدة في اليوم. والتخلي تماماً عن العولمة، مع التراجع عن مساندة التنمية ليست بالمقاربة السليمة في شيء. والإعلان عن سيئات العولمة لأنها تدمر فرص العمل ليس إلا طريقاً مختصراً للغاية لأمر يحتاج إلى إعمال العقل والتحليل المنطقي والمزيد من الفهم والإدراك»، انتهى كلامها.
ومما لا شك فيه، أنه في حين أن الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة قد تقلصت بعض الشيء، فإن الفجوة نفسها بين الأثرياء والفقراء داخل البلد الواحد في اتساع مطرد. وهذا يدعونا إلى ضمان تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء ذلك لأن الله القدير قد خلق البشر متساوين في الحقوق، وكما يقول القرآن الكريم: «إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم». والأتقياء، بطبيعة الحال، لا يشملون المتدينين فحسب، وإنما الأكثر عملاً والأكثر إنجازاً، والأكثر سخاءً.
وإنها المشكلة التي لا بد من تناولها ومعالجة آثارها. فإن تركت دونما حل معقول، فسنكون من المساهمين في زوال العولمة، وسنقضي على آمال الفئة الأقل حظاً من الشعوب في التنمية والازدهار اللذين تستحقهما.
في هذا السياق، أريد الاقتباس من كلمات وزير المالية الإيطالي السيد بيير كارلو بادون، الذي قال: «لا أعتقد أننا نغادر العولمة، بل أعتقد أننا ندخل مرحلة جديدة من العلاقات الدولية العالمية، حيث تعمل السياسات الوطنية على صياغة كيفية تطور وتنمية العولمة في نهاية المطاف». إن إعادة النظر في إصلاح العمليات الراهنة هو من التحديات الماثلة أمامنا. وعلى الرغم من ذلك، وكما كتب الخبير الاقتصادي كلاوس شواب، فإن «إصلاح العمليات والمؤسسات الحالية لن يكون كافياً بحال. بل يجب على قادة الحكومات، مع دعم المجتمع المدني والشركات، العمل بصورة جماعية على إنشاء بنية عالمية جديدة»، انتهى كلامه. والبنية العالمية الجديدة المشار إليها لا بد أن تؤسس على التعاون والتآزر الذي يفضي إلى توسيع قواعد اقتصادات البلدان النامية التي تشكل في خاتمة المطاف محركات تحفيز النمو في تطوير تلك البلدان.
بيد أن التدابير المتخذة حتى الساعة ليست كافية بحال رغم كل شيء. فلقد تعهدت الدول المتقدمة بتخصيص جزء مقسوم من الناتج المحلي الإجمالي خاصتها لمساعدة البلدان النامية على تفادي الآثار المباشرة للعولمة ثم اعتماد أفضل سبل الاستعداد لها. ومما يؤسف عليه، أن هذه التعهدات لم تتجاوز حد الكلام المرسل كي تتحول إلى أي شكل من أشكال التنفيذ الواقعي الملموس.
يلزمنا العمل سوياً على نشر ثقافة التعاون وحل الأزمات وتسوية الصراعات والحروب لأننا في نهاية المطاف جميعاً – سواء الأغنياء أو الفقراء – لا نزال نبحر في قارب واحد. فإما أن نطفو ونواصل الإبحار سوياً أو نغرق عن بكرة أبينا من دون منقذ.
وإذ نذكر أثر العولمة على البلدان النامية، فهنا تساؤلات عدة، بينها: ما الذي ينبغي فعله للتغلب على آثارها السيئة، ولتعزيز العولمة بغية تحسين حياة البشر في أرجاء العالم كافة؟ كيف يمكن أن نحول العولمة إلى وسيلة أكثر شمولية واستدامة؟ وهذا، بطبيعة الحال، يتوقف على مقدرة القادة والزعماء في تعضيد الأحكام المؤسساتية في بلدانهم دعماً لذلك، فضلاً عن تحسين شبكات الأمان الاجتماعية، وضمان استدامة النمو الاقتصادي لديهم.
ومن الأهمية بمكان في هذا السياق أن نتذكر أن شعوب البلدان النامية هم الفئة الاستهلاكية الكبيرة المحتملة للعالم المتقدم، وأنهم يشكلون محركات النمو الجديدة حول العالم.
ومع تطور الاقتصادات، ترتفع قدراتهم الشرائية سواء بسواء. وفي الأثناء ذاتها، ومع العمل على تسوية النزاعات الداخلية والصراعات الإقليمية، فإن خطرهم ينخفض على الاستقرار العالمي. ومن هذا المنطلق، حري بالعالم المتقدم العمل على تسوية الأزمات الإقليمية أينما اندلعت، بما في ذلك، وعلى وجه الخصوص، في منطقة الشرق الأوسط، التي يواصل الصراع العربي – الإسرائيلي فيها إعاقة مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والنمو الاقتصادي للبلدان المعنية، كما أنه يزيد من وتيرة التطرف والإرهاب. وهذا الأمر يستلزم بذل الجهود المخلصة والدؤوبة لتسوية هذا الصراع، فضلاً عن الأزمة السورية الراهنة. ويجب ألا يُسمح للمحرضين ومرتكبي هذه الصراعات، من المساهمين في عدد لا بأس به من التداعيات السلبية، بمواصلة العمل من دون عقاب مناسب.
إن العولمة في كنهها الأصيل سلاح ذو حدين.
في حين أنها نعمة يفيد منها الأغنياء، لكن إذا تم تجاهل الخطوات المناسبة للتلطيف من آثارها السلبية على الفقراء، فقد تستحيل معضلة عصية على الحل. وقال أنان: «العولمة حقيقة من حقائق الحياة. ولكنني أعتقد أننا قللنا من تقدير هشاشتها كثيراً». وإنني آمل في أن نتمكن جميعاً من العمل على جعل العولمة من الظواهر الحياتية التي ترجع بالنفع على الجميع وأن نخرج بها عن كونها معادلة ذات محصلة صفرية.
من خطاب ألقاه رئيس الوزراء اللبناني الأسبق في «منتدى باكو العالمي» في أذربيجان أمس