هل عصر الفردانية إلى زوال (3)
مايكل فولي
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
معنى التغير
للحفاظ على سلامة العقل يبدو أنه من اللازم الحفاظ على توتر بين الحاجة إلى الحرية الفردية ومطالب الآخرين. قيود المجتمع التقليدي كانت وثاقا لا يطاق، بيد أن التطرف المقابل في رفض القيود قاطبة ليس إجابة. ففي الأولى نختنق في سجن الإذعان، وفي الثانية نغرق في محيط الخيار ocean of choice.
نيتشه وعى ضرورة الحفاظ على الثنائيات جميعها، وخصوصا ثنائية أبولو Apollo، رمز النظام الاجتماعي والمحدودية، ودينسيوس Dionysus، رمز الحرية والنشوة. الحفاظ على التوتر بين القوى المتعارضة يمكنه أن يكون مصدر قوة:
“لنفترض أن إنسانا يعتقد أنه من المحال حل هذا التعارض من خلال تحطيم طرف وإطلاق عنان قوة الطرف الآخر بالكامل، عندها لن يبقى لديه إلا إقامة مثل ذلك الصرح العظيم من نفسه الذي يمكن أن تسكنه القوتان، حتى ولو على طرفيه المتقابلين اللذين تتخفى بينهما قوى التصالح المزودة بقوة سائدة تمكنها من، إذا احتاج الأمر، تسوية أي شجار ينشأ”.
فشل نيتشه في الأخذ بنصيحته هو نفسه، بيد أنه يوجد الآن في ما يبدو إحلال غير واع متبادل بين الفردانية والحياة الاجتماعية، التي هي رفض فيض الحرية وبالمثل فيض الامتثال التقليدي. ويبدو أن المفتاح هو الانخراط في نوع جديد من الجماعة يجري اختياره بدلا من فرضه، جماعة زائلة وغير ثابتة، وغير رسمية، بدلا من أن تتطلب عضوية رسمية.
ومثلما هو الحال مع عدة تغيرات اجتماعية، فإن ضمور الفردانية يقدم أسبابا للخوف من نهوض الشعبوية والقومية، ويقدم بالمثل أسبابا للأمل: القيم الحميدة للجماعة الصغيرة. وهذا يؤثر على معظمنا، غالبا دون وعي. أنا أشدد على أنه ينبغي لفرداني القرن العشرين* الانضمام إلى أية جماعة منظمة، إلا أنني على الأقل نزلت من البرج إلى الشارع والجمهور المديني – الذي لم يعد “القطيع السائد” المحتقر من قبل بودلير وفلوبير ونيتشه، إلا أنه جماعة سيئة، على الرغم من أنها الأكثر سيولة ومؤقتية، وتمنح معنى للانتماء، على رغم أنه واه جدا. وبقدر ما توجد وفرة في نشاطات الجماعة الجديدة، كانت ثمة وفرة في فضاءات شعبية جديدة حيث يمكن للناس ان يَروا ويُروا في غرف عامة مفتوحة وقاعات الطعام في الأسواق المجمعة، والمناضد التي تحتل الأرصفة والميادين، والتوسع المستمر في المقاهي. كنت قد فسرت مزاج بودلير وفلوبير ونيتشه على أنه دليل على نشدان النرجسية. إلا أنه من الممكن النظر إليه أيضا على أنه صيغة جديدة من التجمع، صيغة تجمع جديدة تناقضية قوامها الغرباء. ثمة شيء غريب سار في أن ينظر إليهم كأناس غامضين وغرباء [غير معروفين] ويمورون بقوى وعواطف عميقة، ماضين إلى أعمالهم الملحة، ولكن الغريبة. هذا يمثل المعادل المديني لتأمل البحر.
* المقال منشور سنة 2017. وإذن فالكاتب يقصد الفردانيين المتبقين من القرن العشرين.