هل القطاع الخاص في ليبيا ضحية بريئة أم صياد مفترس؟
محمد أحمد
بدايةً، يجب أن أشدد أن هذا المقال ليس هجوما على القطاع الخاص الليبي لا من ناحية وظيفته في المجتمع أو ناحية دوره في السوق، بل هو محاولة لتحليل منطقي وعلمي لتعثر أداء هذا القطاع على المستوى الوطني.
عمومًا؛ المبادئ الرأسمالية قبل نضوجها الفكري تبنت مفهوم الآليات التلقائية الكاملة للسوق في توجيه الاقتصاد بمعنى أن يتوازن العرض مع الطلب عند نقطة معينة يتحدد فيها سعر السلعة.
هذه المبادئ القديمة الضحلة لم تأخذ في الاعتبار كيفية التوازن الميكانيكي للعرض مع الطلب بدون تدخل موجه لحركة السوق، فمثلاً يمكن أن يتوازن الطلب مع العرض بموت نصف المستهلكين (نظرية مالتوس عن السكان)،
وقد يتوازن العرض مع الطلب المحلي بنهب الثروات عن طريق الاستعمار (نقل مواد خام لا يحتاجها أصحاب الأرض لنقاط استهلاكية في أمم خارجية مستهلكة)،
وهكذا، فقد غاب عمن وضع المبادئ الرأسمالية الأولى البعد الإنساني لحركة الاقتصاد. إضافة البعد الإنساني أنتج معضلة أساسية لنظرية توجيه الاقتصاد تلقائيا عبر آليات السوق المحضة وهذه المعضلة أصبحت تعرف بـظاهرة “فشل السوق Market failure”. هذه الظاهرة تبرز عندما يكون الوضع الاقتصادي مائلا بسبب القصور التمويلي والاستثماري الناتج عن انخفاض الربحية المحرك الأساسي لاقتصاديات آليات السوق التلقائية.
هذا ما اكتشفه المفكر الرأسمالي الشهير كينز ليضع ما يسمى بالخط الإصلاحي الذي يعتمد تدخل من خارج قوى السوق كآلية موازنة خارجية تتعلق أساسًا بإصلاح الميزان بين العرض والطلب لفترة محدودة يسمح بعدها لقوى السوق للعودة من جديد لتوجيه الاقتصاد.
وخلافًا للاعتقاد السائد بأن الشيوعية هي من أنشأت القطاع العام إلا أن الحقيقة هي أن الفكر الرأسمالي الكينزي وليس الماركسي أو الشيوعي بتطوراته المختلفة هو السبب وراء نشأة ما سُمّي بعدها بالقطاع العام في داخل دول رأسمالية عتيدة مثل بريطانيا.
كان الغرض الأساسي من إنشاء القطاع العام هو تطوير المجتمع هيكليا ومعالجة اختلالات ظاهرة “فشل السوق” للوصول إلى وضعية يسمح فيها لآليات السوق بتوجيه الاقتصاد الحر.
ومن هنا، مثلاً، تم مد السكك الحديد المدارة بالقطاع العام إلى جميع أنحاء بريطانيا واروبا، كما مدت خطوط الهاتف والبرق والنفط والغاز وغيرها بالطريقة نفسها قبل نقلها تدريجيًا للقطاع الخاص.
نظرية تدخل القطاع العام لإحداث نمو ثوري (غير نمطي) وجدت قبولاً في الدول النامية بشكل كبير سواءً تلك التي اتبعت نظامًا رأسماليًا أم نظامًا اشتراكيًا مع تباين بسيط جدًا من ناحية الأرقام.
لم يكن القطاع الخاص مؤهلاً بحكم هيكلية السوق نفسها من تحقيق هذه الطفرة التنموية.
قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية؛ كانت كلها داخل إطار “فشل آليات السوق” بالمعنى الاقتصادي ولم يكن للقطاع الخاص المحلي أو الدولي أي حافز للدخول بها إلا تحت أنظمةالحماية الاقتصادية والتحكم في التجارة الدولية، وهي بمعنى آخر تدخل حكومي في التوازن بين العرض والطلب.
على سبيل المثال، فإن إنشاء وتطوير نظام المترو تحت الأرض Underground في الكثير من الدول، خدمات البريد الحيوية، المستشفيات والمدارس والمساكن العامة، كل هذه الصناعات؛ تم تطويرها بواسطة أما القطاع العام بالكامل أو بمشاركة كبيرة منه، ولا يمكن القول إن مبادرات القطاع الخاص كانت لتصل إلى هذا الإنجاز على المستوى الأفقي في معظم الدول.
التحليل النظري الكلي يقول إن حافز القطاع الخاص للاستثمار داخل الاقتصاد المحلي في اقتصاد حر يعتمد على عاملين “سعر الفائدة” كمحدد للاستثمار و”معدل الربحية” في صناعة معينة مقابل منافستها دوليًا.
من ناحية نظرية مبدئية، فإن فرق سعر الفائدة بين ليبيا وجيرانها (ليبيا صفر بينما جيرانها لا يقل عن 10%) قد يبدو أنه يشجّع على الاستثمار في ليبيا، لكن من ناحية واقعية؛ فإن سعر الفائدة الحقيقي في ليبيا ليس صفر، بل هو (سعر الفائدة المعلن ناقصا منه التضخم) وكلما كان التضخم موجبًا فإن سعر الفائدة السالبة واقعيا يزداد، وهذا من أكثر عوائق الاستثمار الخاص طويل المدى في ليبيا، فسعر فائدة سلبي يعني أن المستثمر لن يُودِع أي أموال بالعملة الليبية لإدارة الاستثمار في ليبيا ألا تلك التي يستطيع استردادها في المدى القصير جدًا وهو بذلك لن يتورط أبدا في مشروعات تنموية يكون فيها استرداد الأموال أعلى تكلفة من الحصول عليها.
أما من ناحية معدل الربحية؛ فإن المشروعات الكبيرة والتي يفترض أنها تلبي جزء كبير من الطلب المحلي تواجه مشكلتيْن في ليبيا الأولى هي ارتفاع التكلفة النسبية للتصنيع والثانية صعوبة التكيف مع تطورات الطلب من ناحية تكنولوجية.
هاتان المشكلتان تسبّبتا في انخفاض مستوى الربحية في معظم الصناعات التحويلية وتوجه النشاط الخاص إلى مجالات محدودة تنحصر في قطاعي التجارة واستخلاص الثروات الطبيعية في مجالي الزراعة وصيد الأسماك، كما تدفع سياسة “المال الرخيص” الرسمية في ظل معدلات تضخم عالية إلى “تورم” غير منطقي في قطاع العقارات يستغلها القطاع الخاص في المضاربة وليس في الانشاءات تحديدًا.
وبينما يكون هذا الوضع الهيكلي ظالمًا إلى حد كبير للقطاع الخاص، حيث لا توفر آليات السياسات النقدية والمالية فرصًا اقتصادية لتنفيذ مشروعات طويلة الأمد توطن القطاع الخاص في البلد، ولكن وفي الوقت نفسه، لا يمكن للمستهلك الليبي أن ينتظر تعديل هذه الهيكلية مثلا في قطاعات التعليم والصحة والطاقة.
عمليات الخصخصة المحدودة في قطاع الطاقة، على سبيل المثال؛ قادت إلى نظام أعرج تتحمل فيه الدولة العبء الأكبر، حيث لم يقوم القطاع الخاص بتطوير أي آليات ذاتية لإشباع حاجات المستهلك المحلي، بل استمر بطريقة ومنهج القطاع العام نفسيهما في تنفيذ الأعمال.
في لقاء وكالة بلومبرغ مع محافظ مصرف ليبيا المركزي، أشار هذا الأخير إلى أن القطاع الخاص في ليبيا شكّل، إلى منتصف السبعينات، ما يعادل 80% من الاقتصاد الليبي، ولكن السياسات الحكومية قلّصته إلى حد كبير، موضحًا أن الدولة الآن بصدد توسيع نشاطات القطاع الخاص.
حقيقةً، لا أتفق مع هذا الطرح والذي يبدو منافيًا لكثير من الحقائق الاقتصادية من ناحية التطور التاريخي.
مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد بالدول النفطية الشبيهة بالاقتصاد الليبي، حاليًا؛ لا تتعدى 20% من إجمالي الدخل والعمالة، بينما ترتفع هذه النسبة إلى 40% في الدول غير النفطية، ولا توجد أرقام رسمية منشورة للوضع في ليبيا، ولكن البنك الدولي يشير في دراسته عن القطاع الخاص في ليبيا
The Private Sector amid Conflict: The Case of Libya by Aminur Rahman and Michele Di Maio
إلى أن نسبة القطاع الخاص في الاقتصاد الليبي تصل إلى 17,3% من الناتج المحلي الإجمالي بما قيمته 8,3 مليارات دولار أميركي في سنة 2018، وهو رقم يعتبر مسببًا نظرًا لطبيعة الاقتصاد الليبي، خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن أهم قطاع اقتصادي وهو قطاع النفط؛ تحت الملكية والإدارة العامة للدولة.
في هذا المفصل التاريخي “والذي بدأ حقيقة منذ الألفية الجديدة”؛ تحتاج الدولة في ليبيا، نتيجة الضغوط المالية، إلى تخفيف أعباء القطاع العام، وذلك بنقل الكثير من أجزائه إلى القطاع الخاص.
وفقًا لخطط التحول في الدول النفطية؛ فإن هناك استهداف لمعدل 30% من الناتج المحلي الإجمالي بواسطة القطاع الخاص في سنة 2030 في دول مثل السعودية والامارات،
وكي نكون في حدود المعقول؛ فإن تخطيط لزيادة نسبة القطاع الخاص في الناتج المحلي إلى معدل 25% في سنة 2030 سيكون في حدود المستطاع في الاقتصاد الليبي دون أن يُنهكه أو يعرض مرحلة التحول لمخاطر جسيمة.
هناك تخوف كبير للكثيرين من الجمهور من أن القطاع الخاص لن يتوانى عن الاستمرار في ممارساته في المضاربة واستغلال حاجات الأفراد لتعظيم أرباحه، خصوصًا في فترة عدم الاستقرار السياسي التي يمر بها البلد.
هذا لا يعفي من وجود عطب أساسي في القطاع العام انتشر بسبب الترهل والتوسع غير المدروس في أحيان كثيرة واستفحال الفساد في مكوناته الداخلية والخارجية؛ الأمر الذي يجعل الاستمرار بإدارة الاقتصاد عن طريقه وبالنسبة نفسها خيارًا غير كفء ومكلف جدًا.
عليه؛ فإن التوجه إلى التوسع في القطاع الخاص يجب أن يمر بمراحل دقيقة من التشريعات المناسبة التي تمنع تكوين الاحتكارات، التي قد تحوله أو تسمح له بالاستمرار كـ”صياد مفترس” للمستهلك.