هجرة الكلمات الشرعية
سالم العوكلي
بسبب الاحتكاك المباشر بكثير من الأمم والحضارات واللغات، تسربت الكثير من المفردات حتى الآن إلى لهجاتنا الدارجة مع انحرافات فونيمية لا تفرط في أصل المفردة، وكثير من هذه المفردات ذات الأصل الللاتيني (الروماني) أو الإغريقي أو التركي أو الفارسي توطنت وأصبحت مفردات عامية دارجة اشتقت منها الأفعال واستخدمت في التراث من شعر وأمثال وأغنيات . لكن بعض البحاث أو المجتهدين المهووسين بالتأصيل الشوفيني العربي لكل مفردة كثيرا ما لووا بكدح أعناق أو أذرع هذه المفردات كي تفصح رغما عنها عن أصلها العربي . وبعض هذه الجهود لم تخلُ من مسحة كوميدية مضحكة، وكثير منها استخدم فترة المد القومي العربي الجارف.
من هذه التخريجات المضحكة حديث القذافي مرة، وهو في كامل ثقته، بأن شكسبير أصله عربي ليبي من فزان واسمه الشيخ زبير، سرقه الإنجليز منا وحرفوا اسمه شيك زبير، شكسبير، وتأججت هذه النكتة فترة خروج دراسات في الغرب تبحث عن أصول شكسبير، وبعضها يذهب إلى أنه شخصية مخترعة ولم توجد في الواقع.. إلخ. وقد تبنى رجب طيب أردوجان، الذي تجمعه مع القذافي الكثير من الوساوس السييكولوجية ما جعل الصداقة بينهما تتوطد، هذه التخريجة أيضا وصرح مرة أن شكسبير كاتب تركي اسمه الأصلي شيك زبير.
من التخريجات الفكاهية الأخرى التي طالما كررها القذافي بأن مصطلح الديمقراطية (ديموكراسي) أصله عربي واختصار ل (ديمومة الكراسي) للشعب، ومرارا كان يقول ديما كراسي بدل ديمقراطي، وتخلص من عبء المصطلح الأصلي الذي كان يصدعه ويقلقه، وباعتباراه وضع الناس على كراسي بلاستيكية في المؤتمرات الشعبية يناقشون قضاياهم فقد أوفى باستحقاقات هذا المصطلح العربي الأصل، المزعج في مفهومه الغربي لأي منفرد بالسلطة.
من أكثر المفردات حضورا في لهجتنا المفردات الإيطالية، وما أسهم في وجودها بشكل كثيف هو الصناعة والحرف والمستجدات التقنية على المجتمع الليبي التي جاءت مع الاستعمار الإيطالي ولا مقابل لها في ذاكرة اللهجة الليبية، وهي معروفة تقريبا للجميع ، مع وجود مصطلحات ليست مادية مثل فرتونا التي تعني الحظ والتي شاعت كثيرا في حديث الجيل الذي جايل الطليان ومَن بعده، وكأن الحظ أداة او تقنية جاء بها الطليان ولم تكن موجودة مثل الكارو أو البراندا أو اللامبا أو الفرنيلو.
أما مفردة (تقجدير) التي نستعملها في لهجتنا بمعنى التسكع فأصلها التركي كزدير (gezdir ) والكلمات المبنية على الجذر gez بمعنى فسحة ونزهة. ومنها جاءت كلمة كزدورة المستعملة في بلاد الشام بمعنى فسحة ونزهة. ومفردة ياساك التي تعني في اللغة التركية ممنوع أو مستحيل تأتي كثيرا في الشعر الشعبي الليبي كمرادف لليأس أو الحرمان حيث كان تستخدم كثيرا فترة الحكم العثماني، من المفردات ذات الأصل التركي والمستخدمة عندنا كثيرا، مثلما استخدمها القذافي بغزارة في دبلوماسيته المجنونة مع أمريكيا ريجان وأصبحت لازمة في كثير من الهتافات الثورية وقتها، مفردة (طز) وتعني في التركية (ملح) وكما يرد في يوكيبيديا: “كانت تستعمل هذه الكلمة عندما كان الأتراك يحكمون العرب في مراكز التفتيش. كان العرب يذهبون لمبادلة القمح بالملح.. فعندما يمر العربي خلال بوابة العسكري التركي وهو يحمل أكياس الملح يشير إليه التركي بيده إيذانا بالدخول ودونما اكتراث بقول (طز) (طز) (طز) فيجيب العربي (طز) بمعنى أنه فقط ملح أي لا شيء ممنوع أو ذا قيمة ويقوله بطريقة عدم الاكتراث أو الاهتمام (وهكذا انعكس معناها إلى عدم الاهتمام) فيدخل دون تفتيش.”. وفي لهجتنا نستخدم مفردة (ملِّحْ) كفعل أمر زجري بمعنى أغرب عن وجهي.
وأنا أقرا كتابا للمفكر الإيراني داريوش شيجان صادفني مصطلح (روشن فكر) بمعنى فكر الأنوار أو فكر التنوير، واتضح أن تسمية روشن التي نطلقها على النافذة من حيث يأتي النور أصلها فارسي .
كنت دائما حائرا حيال مفردات مستخدمة كثيرا في لهجتنا تطلق على الحديث الطويل المسترسل الذي لا ينتهي (قرنج) و (جرنان) واعتقد إلى حد كبير أنها مصطلحات دخلت علينا عبر الميديا، الراديو والصحافة، قرنج انحراف صوتي لمفردة جرينيتش، وهي مفردة كانت تتكرر في الراديو منذ مجيئه إلى ليبيا وحيث كانت القناة الأكثر استماعا هي إذاعة البي بي سي العربية، وحيث على كل رأس ساعة يعلن الوقت بعد رنات ساعة البيج بين حسب توقيت جرينتش، أدى تكرار هذه المفردة في الراديو الذي لا يتوقف عن الكلام أن تطلق على كل كل ضخب أو حديث طويل أو كلام لا يتوقف، بينما مفردة (جرنان) التي تحمل المعنى نفسه هي تحوير لمفردة (جورنال). مصطلح آخر في لهجتنا يطلق على الكلام الفاضي أو الخاوي وهو (البقرفة) وهي مشتقة من الميكروفون الذي ينطق في لهجتنا (البقرفون).
ثمة رياح شمالية غربية تهب على مدينة درنة والسواحل المحاذية لها نهاية فصل الصيف وبداية الخريف تسمى في اللهجة المحلية رياح (المِلْثم ) ويفسرها البعض بانها تدفع الناس لارتداء اللثام ضمن التأصيل العربي، لكن المفكر عبدالرحمن بدوي يذكرها في كتاب مذكراته، حيث كان يسمى موسم للطقس الرديء في قريته شرباص بدمياط بالتسمية نفسها التي تشكل انحرافا صوتيا لكلمات إيطالية مالوتيمبو Malo tempo التي تعني الوقت السيء او الطقس الرديء ، كما يوجد شارع شهير في درنة اسمه (شارع الْكوي) وقد اجتهد البعض في الكتابة عنه وتفسير أصل التسمية وفق منهج التأصيل العربي، فربطه البعض بالكي وبأن الغزاة كواهم المقاومون بالنار حين هاجموا درنة ، والبعض بالكوَى، جمع كوَة وهي كوة صغيرة تفتح في مداخل البيوت تخرج منها القطط الأليفة وتدخل، ولكن من ضمن أحاديث استمتعت لها عرفت أن أول محطة كهرباء أنشئت في درنة كانت بهذا الشارع ويسمونها (قابينة الضي) ومن هنا اتضح أن إلكْوَي نطق لتسمية محطة الكهرباء في اللغة الإنجليزية (Elec. Way ) التي تعني شارع الكهرباء.
لا يقتصر تأثير المفردات الأجنبية في لهجتنا على العصر الحديث، لكنها تمتد إلى أزمنة قديمة، ومازالت الكثير من الأمكنة والقرى تحتفظ بأصل تسمياتها الإغريقية أو الرومانية أو الفينيقية، مقبل الميلاد وبعده بقليل. وأنا أراجع قاموس كيمبريدج للفلسفة الذي انتهى نجيب الحصادي من ترجمته التي استغرقت 5 سنوات، توقفت عند بعض ما صادفني من مصطلحات لاتينية، مثل مفردة Agapes وهو الاسم القديم لقريتي (القيقب) وتعني حسب قاموس كيمبريدج ” المحبة الخالصة لجميع الأشخاص، وهي نظريّة أخلاقية تقر أن هذه المحبة هي القيمة الأساسية، والأفعال إنما تكون خيِّرة بقدر ما تعبّر عنها، وتسمى أحيانا الأغابّية. وagape هي الكلمة اليونانية التي تستخدم غالبا للتعبير عن المحبة في العهد الجديد، وغالبا ما تستخدم في اللغات الحديثة لتدلّ على نوع المحبة الذي يعتبره المؤلّف مثاليا. ولعلّها كانت في يونان العهد الجديد كلمة غاية في العمومية للدلالة على المحبة”.
من المفردات التي صادفتني في القاموس STOA وتعني في اليونانية الرواق أو الشرفة ذات الأعمدة وتنسب إليها الفلسفة الرواقية التي كان يمارسها بعض فلاسفة اليونان في شرفة في أثينا، وتوجد عين ماء في واد غرب منطقة رأس الهلال اسمها عين ستوا . وموقع هذه العين المطل على الوادي من أعلى يمكن أن يكون السبب في تسميتها المتحدرة من اليونانية القديمة.
صادفتني أيضا مفردة Sutra اللاتينية التي تعني الخيط أو النسيج ، واستخدمت اصطلاحا فلسفيا يعني (قاعدة سلوكية) ، ومازلنا نطلقها على البزة التي نرتديها أو الجاكيت، والبعض ربطها بالسُّتر، غير أن الأقرب رجوعها إلى اصل روماني حيث بعض ملابسنا الشعبية ترجع إلى ملابس هذه الحقبة مثل الجرد، وبعض مناطق الجبل الأخضر المنبسطة مثل الجرد تسمى حتى الآن (جردس).