هبال الـ 90…!
فرج عبدالسلام
“بعد بلوغ سن الأربعين يهيئ المرء منا نفسه لاختيار الأعمال المناسبة غير المرهقة، ويبدأ في انتخاب من يساعده في أعماله، إن كان صاحب أعمال. ويبدأ جدّياً في التفكير في كيفية قضاء الباقي له من عمره في راحة متجنباً كل ضغط قد يؤثر على صحته على قدر الإمكان.”
وجدتُ هذا القول في موقع “طريق الإسلام،” وأتخيّل أنّه يعود إلى زمن سحيق، حين كان متوسط عمر الإنسان نحو أربعين عاما، بل ربما جاء استنادا إلى التراث العربي وأن القصد منه الهداية وإرشاد الناس في مرحلة نهاية العمر. لكن يتضح جليا أن هذا الرأي لم يخطر ببال العديدين من الزعماء والمسؤولين العرب الذين تجاوز بعضهم سنّ التسعين على الرغم من أنهم، ويا للعجب، لا يملكون شعرة شيب واحدة!
كذلك استوقفني منذ أيام خبرٌ لا يخلو من الأهمية والطرافة كذلك، وهو وصفُ أمين عام الحزب الحاكم في الجزائر (84 عاما)، اختيار حزبه للنائب الشاب معاذ بوشارب مرشحاً لرئاسة البرلمان، بأنه “تحوّلٌ سياسي مهم بعد وصول هذا الشاب وهو في الـ47 من عمره لرئاسة البرلمان ومنصب ثالث رجل في الدولة. وبالمناسبة فعمرُ رئيس البلاد المريض والمُقعد، الذي تنطلق دعوات محمومة لترشيحه لولاية خامسة هو 81 عاما فقط . متّع الله الرئيس وأمين الحزب الحاكم بالصحة والعافية ليكونا ذخرا للأشقاء هناك.
على الرغم من تجاوزي سنّ السبعين، إلا أن مسألة السير الحثيث نحو مرحلة نهاية العمر، لم تكن أبدا من شواغلي الملحّة، ولم أحاول يوما إخفاء مظاهر الشيخوخة من صلع أو غزو للشيب… وأحبُّ دائما إيهام نفسي بأن ” الشبابَ هو شبابُ القلب” وأتصرفُ وفقا لذلك ضمن حدود اللياقة، وحسب ما يتيحه الجسدُ من إمكانات حركية تسمح بها هذه المرحلة الجبرية، حيثُ تنضبُ الموارد وتقصُر الإمكانات البدنية امتثالا للقوانين المٌلزمة التي تحكم الطبيعة… لكن رغم ذلك أجد نفسي على قناعة تامة بضرورة أن يأخذ أمثالي موقعا على الجانب، وأن يفسحوا المجال لدماء جديدة كي تتقدم الصفوف.
وإذا ما تجاوزنا قاموسنا التراثي الذي يحدد بشكلٍ لا لبس فيه مرحلة الشباب التي أجمعت أبحاث ودراسات عدة أنها تبدأ في سن الثامنة عشرة وصولا إلى منتصف الثلاثينيات. وكذلك إن ألقينا نظرة خاطفة على موروثنا الذي يشكّل مصدرا مهما لقيمنا وفهمنا للحياة، وإن عُدّ في عمومه تراثا مأزوما يصعُب الفكاك من سلطته السلبية، إلاّ أننا نجد أيضا أنه يُعلي في محطات كثيرة من قدْر الشباب، وخير مثال على ذلك “أسامة ابن زيد” الذي مُيِّز على كبار القوم، ووُلّي إمرة جيش المسلمين في صدر الإسلام ولم يجاوز سنّ العشرين بعد… وكذلك لا نغفل أنّ الغالبية فسّرت الآية التي ورد فيها ما النصّ القرآني “فلمّا بلغ أشدّهُ وبلغ أربعين سنة” على أن أشدّه، تعني سن النضج والمسؤولية التي تبدأ من الثالثة والثلاثين وتصل إلى حدودها القصوى في الأربعين، وهي سنُّ اكتمال الرشد والتحلي بالحكمة.. لتتبعها مرحلة الكهولة بعد الأربعين، ثم الشيخوخة بعد الستين.
يدعونا كل هذا الخلط في المفاهيم والأدوار إلى التمعّن والتدبّر في ذلك الشيخ الجالس على حافة القبر، والذي تلطّف وأنعم على “كهل” بمنصبٍ رفيع مُدّعيا أنه يُنصفُ الشباب ويمنحهم موقعا مسؤولا في شؤون بلادهم، لكننا قد نجد له العذر فالرجل وأمثاله لا يعرفون أنه في بلدان العالم المتطور الآن، هناك دولٌ “عظمى” لها دورٌ رائد في مصير هذا العالم، يحكمها شبابٌ بالفعل. فماكرون تولّى حكم دولة فرنسا العظمى في التاسعة والثلاثين من عمره، وفي السن نفسها كان هناك كاميرون وبلير في بريطانيا، ورئيس وزراء أيرلندا، والنمسا القوية ومستشارها الذي لم يتعدّ الحادية والثلاثين. والقائمة تطول من إستونيا إلى نيوزيلندا (وإن كانت زعيمتها امرأة في الثامنة والثلاثين ما يعمق إحساسنا بالمذلة) وحتى لا نبخس نيوزيندا حقها ونعتبرها دولة هامشية فسكانها يقلّون عن سكان ليبيا بنحو ثلاثة ملايين، بينما يفوقنا ناتجُها السنوي الإجمالي بأكثر من 200 مليار دولار، وليس النفط من ضمن ثراوتهم الطبيعية.. أما في عالمنا البديع المسكون بالمسؤولين الجالسين على حافة القبور، فلا نرى إلا حكّاما ذكورا، وشيوخا هرمين بالكاد يستوون وقوفا على أقدامهم أو يفقهون النطق بجملة مفيدة دون تلعثم وحتى هذيان، وأي استثناء بينهم يكون قد أتى عن طريق التوريث أو الانقلابات…
إلى متى نغالط أنفسنا؟ ولمَ لا نتيح الفرصة للشباب (تحت سن الأربعين) لتولي المناصب الكبرى والقيادية، فقد أثبتوا قدرتهم على تحمل المسؤولية، والجرأة في اتخاذ القرارات في ظل نظام “الضوابط والتوازنات” الذي لا تحققه إلا الديموقراطية والدولة المدنية المعمول بها في العالم المتحضر.