نوضي .. نوضي يا ليبيا
سالم العوكلي
بمجرد أن أعلِن بعد اتفاق جنيف على موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا، كررتُ فترتها في عدة مقالات ما يفيد بأن هذه الانتخابات لن تتم في موعدها، وفي مقالة بعنوان: بين جيل أهلاً بالوطن وجيل “أهلا بالعرقلة وبالانقلاب”. المنشورة بموقع 218 بتاريخ 10/7/ 2012 ، ذكرتُ أنه “طالما الكلمة الأولى في الشارع ما زالت للسلاح الخارج عن القانون، وطالما العاصمة ما زالت في قبضة الميليشيات والمرتزقة والجنرالات العثمانيين، وطالما العسكريون في الداخل متأهبين للانقضاض على السلطة بعد أن فشلت الطبقة السياسية، وفشل منتدى الحوار الليبي، لن تقوم الانتخابات في موعدها المحدد ولا في أي موعد.”.
وفي مقالة نُشرت ايضا بالموقع نفسه تحت عنوان “لا انتخابات مع الميليشيات” تطرقتُ للظروف نفسها التي تستبعد إمكانية أن تُجرى انتخابات حرة ونزيهة في هذا الموعد أو على المدى المتوسط ، أوتنجح مخرجاتها إن حدثت، لأنه كما ذكرتُ حرفيا “يصعب التفكير في قبول نتائجها من قبل الأذرع السياسية للميليشيات إن خسرتها، لأن ردة فعلها ستكون مثل ميليشيات العراق التي ترفض الآن نتائج الانتخابات، وستعمل كما فعلت سابقاً بعد انتخابات مجلس النواب على تفجير الوضع وإعادته للمربع الأول، والتمديد للسلطات الحالية الخاضعة لها، وتحويل الملف الليبي من جديد لمؤتمرات أخرى تجوب مدن العالم، وهي المؤتمرات التي يعرف مهندسوها أنه طالما العاصمة في قبضة الميليشيات لن يتحقق أي مسار يكتبونه على الورق، لكنهم لا يفعلون شيئاً حيال ذلك وكأنهم يُبرّئون ذممهم ويحيلون كل مرة وفي كل إحاطة الإخفاق إلى أطراف داخلية، ويهددون بالعقوبات كل معرقل للمسارات التي يرسمونها عبر مجلس الأمن الذي استمرت جلساته لعشر سنين بخصوص ليبيا تجتر تقريباً نفس الإحاطات ونفس الكلام، وكأن كل إحاطة نسخ ولصق من السابقة لها.”.
لا تقع هذه التوقعات في حيز التنبؤ أو التخمين أو لعبة المصادفة، ولكن كل من يتأمل في الوضع على الأرض يمكنه توقع ذلك بسهولة. والأمر لا يحتاج إلى حنكة لأنه تحصيل حاصل، فبمجرد أن تُلقى بذور في أرض مالحة وجافة من الطبيعي أن نتوقع وببساطة أنها لن تنمو. فلكل استحقاق بيئة مناسبة رهن بها نجاحه أو فشله.
ومع زيادة جرعات الضغوطات الدولية، والتهديد الخجول بمعاقبة كل من يعرقل هذه الانتخابات، وجرعة التفاؤل المجاني في بعض الأوساط بإمكانية إجرائها بعد أن شرعت مفوضة الانتخابات في خطواتها الأولى للإعداد لهذه الانتخابات، كتبتُ ما يفيد أنه حتى لو تمت الانتخابات بهذه الضغوط أو بالإصرار على إجرائها في الموعد المحدد، فإن الوضع بعدها سيكون أسوأ مما قبلها، وأعني هنا خصوصا الانتخابات الرئاسية التي يدور حولها لغط كثير بعكس الانتخابات التشريعية، وكأن منصب الرئيس سيبتلع كل ما سواه مثل ما يحدث في أي دولة شمولية.
وأيضا، هذا لا يقع في حيز التخمين أو التنبؤ، لكن مجرد التأمل في قائمة المرشحين الذين يثار حولهم اللغط، سندرك أن النتائج إذا جاءت في صالح أحد هؤلاء المرشحين فالوضع سيكون أسوأ بعد الانتخابات. والمفارق أو الغريب أن معظم القنوات ووسائل الإعلام المختلفة، لا تركز سوى على شخصيات المرشحين الإشكالية، وتهمل باقي المرشحين القادمين من خارج الطبقة السياسية السابقة أو من خارج الفاعلين على الأرض، وكأن هؤلاء الجدد مجرد ديكور في دولة تسيطر على مصيرها السياسي أحزاب كبرى لا تخرج السلطة عن مرشحيها. لكن وسائل الإعلام الدولية والإقليمية والمحلية تعرف أن الاهتمام بالمرشحين الإشكاليين ــ الذين تتداول أخبارهم ولا تختفي صورهم من على الشاشات وكأنها تنفذ دعاية انتخابية مجانية لهم ــ يزيد من الاحتقان ومن وضع البلد على عتبة أزمة أخرى قد تكون أشد ضراوة، ولا أعرف ما الغاية من مثل هذا الاهتمام المبالغ فيه، هل هو من باب الإثارة أم من أبواب أخرى نغفل عنها؟ لكن ما أعرفه أن هذه الوسائل الإعلامية هي نفسها التي اجتاحت الربيع الليبي في بدايته وركزت في تغطياتها وفي أغلفة جرائدها ومجلاتها على قادة الجماعات الإسلامية، وعلى كل الشخصيات الإشكالية التي من شأنها أن تشوش على أهمية هذا الحراك الذي تصدر واجهته في البداية التكنوقراط والمحامون والقضاة والمثقفون.
لا تحتاج هذه التوقعات إلى تعب كثير في قراءة المشهد أو التحليل أو التقصي، وإذا كان الربيع يعرف من رفرفة فراشة فإن الخريف يعرف من التعري ومن التساقط الغزير للأوراق الغضة. ولأن كل المبادرات التي توجهت للأزمة الليبية لم تأخذ في حسبانها الأولويات، وغالبا ما وضعت الحصان فوق العربة وليس حتى خلفها، فإن الأولوية التي طالما طالب بها العقلاء والمطلعون على تواريخ مثل هذه الأزمات التي تعقب سقوط نظام شمولي هي المصالحة الوطنية، بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي فان كل مبادرات الحل السياسي كانت تقام على أرض ملغمة، وكل ومضة تفاؤل كان يقابلها انفجار لغم، وبسبب تأجيل المصالحة أفسحت هذه الصدوع التي تتسع في جسد الكيان فرصة لتسرب الأجندات والتدخلات الخارجية، واللعب بهذه التناقضات واستثمار الضغائن لصالحها لتصل الأمور إلى حرب بالوكالة فوق أرضنا. وكل طرف أصبح يتلقى أوامره من خارج الحدود، وكل مّن خارج الحدود يبحث عن مصلحته ولا تهمه مصلحة مَن داخل الحدود، وإن لم تتوافق المصالح فإن تعطيل الحل واستمرار الأزمة هو السيناريو المناسب لها جميعا في انتظار أن تتبدل الموازين لصالح أي طرف منها، واندمجت سلطات سياسة الأمر الواقع في هذه التبعية لأن كل طرف يريد أن يقوى بالخارج في مواجهة الخصم، بينما الأغلبية من الليبيين الذين لا يريدون سوى الاستقرار والأمن والدولة المدنية التي حلموا بها، خرجوا من اللعبة من اللحظة التي خرجوا فيها من الميادين والشوارع، وتركوا مستقبل البلاد في يد طبقة سياسية ما عادت تهمها سوى مصالحها، وتركوا ثورتهم بين أيدي سُرّاقها.
هذه الأغلبية التي أعنيها هم من استلموا البطاقات الانتخابية في انتظار هذا الاستحقاق الذي من المفترض أن ينقلهم إلى ضفة أخرى ويحل أزمة الشرعية، لكنه استحقاق تسربت إليه نفس الطبقة ليتحول إلى مجرد عملية تدوير، والمدورون يعرفون أن بجانب كل بطاقة انتخابية ثلاث قطع سلاح كما تبين إحصاءات السلاح المنتشر.
وكما ذكرت الأسماء الجديدة على هذا الاستحقاق لا أحد يتحدث عنها مثلها مثل مرشحين مستقلين في أمة تسيطر عليها أحزاب رئيسية، ونحن للأسف ليس لدينا مثل هذه الأحزاب التي تتداول السلطة، وكل ما هنالك مازال يعمل في ظل سياسة الأمر الواقع، أو ليس في الإمكان أبدع مما كانوا، وكأن البلد فرغت من الكفاءات أو من العاقلين الذين يمكن أن يصلوا بها إلى بر الأمان، لكن الأحداث الإقليمية على الأقل في بعض الدول التي بدأ فيها الربيع العربي أو داعبها، ترينا أن دون ضغوط شعبية وحراك مدني سلمي متواصل، فسنظل في الدائرة نفسها نعيد تدوير الأسماء نفسها التي أوصلتنا لهذا المأزق، ونبحث عن الحل في من كان مشكلة، ومقولة: داوني بالتي كانت هي الداء، النواسية، لا تصلح إلآ في سهرة خمر تنتهي مع الصباح.
مرت ليبيا بهذا المأزق الخطير بعد خروج نهاية الفاشية الموسيلينية الأولى، والشروع في التأسيس قبل 70 عاما، لكن ما حدث وقتها إن وضع الجواد أمام العربة وكانت مواثيق المصالحة أولوية، كما أن الشخصيات الإشكالية والمعرقلة إما أنها أقصِيت من قبل النخبة الساعية لحل حقيقي، أو ابتعدت بملء إرادتها من منطلق أخلاقي حين عرفت أن وجودها سيعطل حلم الاستقلال ويعود باتفاق بيفين ـ سفورزا كبديل جاهز؟. وأعتقد أن المزاحمين على السلطة الآن ابتعدوا عن هذه المواقف الأخلاقية مسافة تكفي لموت الضمائر الوطنية. ولا حل أمام هذا العناد المَرَضي سوى أن يضغط الشارع وأن يخرج الناس مطالبين بسقوط كل الطبقة السياسية ونزع حلمهم من قبضة القراصنة، وليس مجرد أن يستخرجوا، كل مرة، البطاقات الانتخابية وينتظروا افتتاح مراكز الاقتراع كي يضعوا أصواتهم ويرجعون إلى بيوتهم كما فعلنا سابقا ودفعنا الثمن، فهذه الطبقة السياسية بها مس من الطغيان والهوس بالسلطة، ولن تتركها إلا إذا أُجبِرت على ذلك. فالناس دائما اقوى حين ينظمون حراكهم، وقادرون على إسقاط هذه الطبقة الانتهازية مثلما أسقطت أعتى وأقوى نظام دكتاتوري في المنطقة، ولا أحد في المشهد الآن أقوى من ذلك النظام أو حتى قريبا من المقارنة به. فقط غيابنا هو الذي يجعلهم حاضرين ومتطفلين دون خجل على أي استحقاق جديد.
فالثورة كالبرق أو الرعد لابد أن تتكرر كي يهطل المطر وتنمو البذور.
لقد بدأت ثورة فبراير العظيمة بهتاف :نوضي نوضي يا بنغازي ، لذلك على هتافنا القادم أن يكون نوضي نوضي يا ليبيا. والمعنى:
نَاضَ الشَّيْءُ : تَحَرَّكَ، تَمَلْمَلَ، تَدَبْدَبَ. نَاضَ الْبَرْقُ : تَلَأْلَأَ. ناضَ السَّائِحُ : ذَهَبَ فِي الْبِلاَدِ، جَالَ.