نوبل قرنح.. “جائزة مستحقّة للأسباب الخطأ”
فرج الترهوني
أثار فوز عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل للأدب عن هذه السنة العديد من الآراء المتباينة لأسباب شتى، هذا المقال للكاتبة وأستاذة الأدب والمترجمة “ميغ آرنبيرغ” الباحثة في قسم الآداب واللغات في جامعة روتغيرز بالولايات المتحدة. وهذه ترجمة للمقال المنشور في مجلة :News Lines
في إعلانها عن فوز عبد الرزاق قرنح الزنجباري المولد بجائزة نوبل للأدب لعام 2021 ، فاجأت لجنة الجائزة العالم مرة أخرى. فهو يُعتبر فقط الكاتب السادس من إفريقيا الذي حصل على الجائزة في تاريخها الممتد 120 عاماً، وتمت الإشادة بقرنح “لغوصِه المتعّمق وبعاطفة شديدة في قضايا آثار الاستعمار ومصير اللاجئين في منطقة الخليج بين الثقافات والقارات المختلفة.” قد نلتمسُ العذر للقراء الأقل دراية بقرنح إذا ما تخيلوا أنّ مجموعة أعماله تعيد كتابة قضية “صراع الثقافات” بين إفريقيا وأوروبا، أو أنها انشغالٌ فرديّ بمواجهة إفريقيا مع الغرب في عهود الاستعمار.
لكن الحقيقة أن كتابات قرنح تُعدّ أكثر ثراءً من ذلك، وقد تكمن القيمة الحقيقية في وصوله إلى قرّاء أوسع نطاقا من خلال قدرته على تعقيد مثل هذه المفاهيم التبسيطية للمكان وللتاريخ، وكذلك من خلال مقدرته على تعطيل توقعاتنا التي غالًبا ما تكون محدودة لما قد يشمله ما يُعرف بـ “الأدب الأفريقي” أو “أدب ما بعد الاستعمار” .
في الواقع، غالًبا ما رفض قرنح نفسه مثل هذه التصنيفات بين التحديدات من جميع الأنواع، من مسألة الحدود الوطنية، إلى الهويات العرقية والدينية، إلى الحدود المنظِّمة لقصصه نفسها. المفارقةُ في استحضار لجنة نوبل لـقضية “الهوة بين الثقافات والقارات” هي مركزية المحيط الهندي في عوالم السرد عند قرنح. وبعيدًا عن اعتبار المحيط فجوة حضارية وجغرافية لا يمكن عبورها بسهولة، يقدمُ قرنح هذا الجسم المائي كعالمٍ قائم بذاته، تتخلله علاقات حميمة. وهذا “المحيط ” هو قناة الاتصال نفسها. حيث تشكّل الرياح الموسمية التي تحددُ الفصول وتحملُ “التجار المغامرين والبحارة” ذهاًبا وإياًبا بين إفريقيا وآسيا نوعا من إيقاعٍ خلفي لجميع رواياته تقريبا.
ويصف قرنح في رواية “عن طريق البحر” 2001 كيف أصبحت هذه الروابط عميقة الجذور فيقول: لقرونٍ، قاموا برحلة سنوية إلى ذلك الساحل الممتد على الجانب الشرقي من القارة، والذي كان قد توقف منذ فترة طويلة عن استقبال رياح المونسون.
لقد جلبوا معهم بضائعهم وآلهتهم وطريقتهم في النظر إلى العالم، وجلبوا قصصهم وأغانيهم وصلواتهم، تاركين بعضا منهم وراءهم طوال حياتهم…. وبعد كل ذلك الوقت، بالكاد عرف الناس الذين عاشوا على هذا الساحل من هم وما هي هويتهم.
تم الكشف عن موطن جزيرة قرنح في زنجبار، قبالة الساحل الشرقي لما يعرف الآن بالجزء الرئيس من تنزانيا، والمدن الساحلية المسماة وغير المسماة التي تشكل العديد من الخلفيات السردية الأخرى على أنها محاور قديمة للاختلاط الثقافي والاختلاط بين الهنود وأجناس متنوعة بلغاتهم الفارسية والعربية والكوشتية والبانتوية، وكذلك للمعتقدات والقصص والثقافات المختلفة. فهناك يجلب البحارة حكاياتٍ من رحلاتهم إلى سيام والملايو، حيث يتم استبدال الأثاث المنحوت في زنجبار بالبخور من البحرين، ويقترن التجار من كلكتا الهندية بعرائس في مومباسا، ويقترض التجار في تانغا وباغامويو من خلال علاقاتهم في عدن ومسقط. هذا وحده كاف لزعزعة الأفكار المنتشرة حول عزلة إفريقيا قبل وصول الأوروبيين.
حيث يعترف عمل قرنح الروائي بالتمزق العنيف الذي أحدثه الاستعمار وتعطيله لهذه الأشكال السابقة الأكثر مرونة للتبادلات المختلفة، لكنه ينقل أيضا الفترات المتتالية من الغزو الأجنبي والسيطرة على ساحل شرق إفريقيا – من البرتغالي إلى العماني إلى الألماني إلى البريطاني – كتعقيدات أكثر لفضاء ثقافي معقد بالفعل. وفي رواياته، هذا يعني اختلاط المزيد من اللغات والتلميحات الأدبية ووجهات النظر.
كأن يغني البستانيون جملا شعرية عربية بكلمات سواحيلية، و يتغّزل العاشق بحبيبته بترجمة لشيلر. وحيث ينظر الابن إلى تخلّي أبيه عنه من خلال جُملٍ لمسرحية لشكسبير.
ممّا لا شك فيه أن قرار قرنح بالكتابة باللغة الإنكليزية ساعد في جعل فوزه بالجائزة ممكًنا، حيث لا يزال الكتاب الآخرون من المنطقة، الذين يكتبون في الأساس باللغة السواحيلية، غير مُترجَمين إلى حدّ كبير إلى اللغات المنتشرة عالمًيا في الغرب. ولكن في حين أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأدبية التي اختارها قرنح، فإن العوالم التي يصفها متعددة اللغات بشكل لا لبس فيه. وتمتلئ كتبه بالترجمات والترجمات الخاطئة دائما بين السواحيلية والعربية والهندية والغوجاراتية والإنكليزية والألمانية ولغات أخرى.
ولأنها ولدت في هذا العالم الأفريقي غير المتجانس، تواجه شخصيات قرنح التي تهاجر إلى المملكة المتحدة وألمانيا تلك الأماكن بأحاسيس عالمية مكتملة التكوين خاصة بها. كما هو الحال في رواية “الهجر” Desertion(2005 ) فغالًبا ما يضطرون عند وصولهم إلى أوروبا إلى إعادة تسمية أنفسهم وفقا لثنائيات الأبيض والأسود وفقا للخيال الغربي الضيق، فيقول مثلا “سرعان ما بدأت أقول إن السود والبيض، مثل أي أشخاص آخرين، يطلقون الكذبة بسهولة متزايدة، ويعترفون بتماثل اختلافنا، ويحيلون القضية إلى رؤية محددة لعالٍم عنصري.
فمن خلال الإقرار بأن نكون أبيض وأسود، نتفق أيضا على الحد من تعقيدات الاحتمال؛ ونتفق على التسويات المجحفة التي خدمت وستستمر على مدى قرون، في خدمة المتعطشين للسلطة والتأكيدات المرضّية الذاتية.
بالطبع، لا تهاجر كل شخصيات قرنح إلى أوروبا، ولكن يبدو أن جميع الشخصيات قد تأثرت بطريقة أو أخرى بالنزوح، وبالتالي تعرضت لخسارة ما. وهنا تصل رواياته إلى جوهر تأثيرات الاستعمار المتنوعة، في قصص تتكشف ببطء، وتتعرج بهدوء عبر المجتمعات وتنزل من خلال تواريخ العائلة لتنتهي عند الجوانب القاسية فيها.
ففي مواجهة ضابط الهجرة البريطاني الذي سيقرر مصيره، قيل لطالب اللجوء عمر صالح، في رواية “عن طريق البحر”: أنت لا تنتمي هنا، وأنت لا تقدّر أًيا من الأشياء التي نقدّرها، فأنت لم تدفع شيئا مقابل هذه القيم عبر الأجيال”.
لكن الدفع عبر الأجيال مقابل الرغبات الجشعة لأوروبا، والغزاة والمغتصبين، وصانعي العنف الكبار والصغار منهم، هو بالضبط ما نراه يتجلى مرا ًرا وتكرارا في روايات قرنح. كما تظهر عند قرنح النصوص العنصرية والاختزالية التي تحصر المهاجرين الأفارقة في الأماكن البريطانية والألمانية في تمثيله لزنجبار ما بعد الاستعمار.
وغالًبا ما تعود كتبه إلى الانتفاضة العنيفة في عام 1964 التي سبقت هجرة المؤلف حينما كان مراهقًا إلى المملكة المتحدة، عندما قُتل خلالها المنتمون إلى التراث الآسيوي، وكلّ من ينظر إليهم على هذا النحو، واضطهدوا وأجبرهم العنف على النزوح.
تلك الذكريات المخزية والصدمة لهذه الأحداث تقف بقوة على أطراف روايات قرنح وتترك شخصياته في المنفى وفي دائرة الرفض، سواء اختاروا البقاء أو الرحيل. بالنسبة لأولئك الذين يستقرون في بريطانيا، مثل رواية “في مديح الصمت” 1996 فإن الفئات التي يجدون أنفسهم مجبرين للبقاء ضمنها تصبح مصادر للمحاكاة الساخرة.
كأن يقول: لم أجد الشجاعة لأخبره أنني لست أفريقًيا كاريبًيا، أو أن لي أي علاقة بالكاريبي، ولا حتى أي شيء يتعلق بالمحيط الأطلسي – أنا فقط فتى من المحيط الهندي، مسلم، وسني ملتزم بحكم التنشئة، ووهابي المذهب بالارتباط، وأنني ما زلت غير قادر على الهروب من عواقب تلك التربية المبكرة…. لكن لم يكن يقصد الأفارقة الكاريبيين على أي حال، بل كان بالطبع يقصد سود البشرة، والأحباش، والعبيد ، والبونغو-بونغوس، هّيا قلها بصوت عالٍ، أنا أسود، وأنا فخور بأنني من ضحايا الجوع والاستبداد والمرض والشهوات غير المنظمة وضحايا التاريخ، وما إلى ذلك. أي من ضحايا التصنيف العرقي. لكن الفكاهة لا يمكن أن تخفف من الأثر النفسي الناجم عن النزوح العنيف والنبذ ومن ألاّ يراك الآخرون.
الأحداث التاريخية الهامة – الفتوحات الاستعمارية، وتجارة الرقيق في المحيط الهندي، وانتفاضات ماجي ماجي والبو شيري، والحرب العالمية، واستقلال زنجبار وتنجانيقا، وثورة زنجبار. فمن خلال الاهتمام بالعلاقات الحميمة داخل الأسرة، تكشف هذه القصص أيضا عن أشكال أكثر هدوءا من الاستغلال والعنف بين الأشخاص. فالمشهد الأخلاقي عند قرنح معقّدٌ أيضا. حيث لا يمكن ربط المعاناة بفاعلين معينين أو بأحداث منفردة؛ وحيث يمتد التعاطف في جميع الاتجاهات، حتى في الوقت الذي تنتشر فيه آثار الانتهاكات التي يمكن تتبعها غالًبا عن طريق الميول السردية الرقيقة والتي تمتد لتشمل مظالم أكبر تنتشر عبر المجتمعات مع عواقب مدمرة.
الشخصيات المركزية عند قرنح، رغم أنها ليست عاجزة، غالًبا ما تجد نفسها محاصرة بظروفها الاجتماعية، معرضة للخطر ومُستغَلة من قِبل أصحاب القوة النسبية، حتى داخل عائلاتهم. الديون والخسائر تلوح دائما، ما يدفع إلى الاقتلاع من الجذور ليس بالضرورة بحثا عن الثروة بل لمجرد السعي وراء الراحة.
ربما يرجع ذلك جزئًيا إلى مقاومة قرنح لأن يُنظر إليه كممثّل لفئةٍ اجتماعية معينة، لأن رواياته تذكرنا باستمرار بأن القصص دائما ما تكون غير مكتملة، ومبنية على التصورات المحدودة والذكريات غير الموثوقة لرواة هذه القصص. كما كتب في “عن طريق البحر” يقول: الحكايات دائما تنزلق من بين أصابعنا، وتغير شكلها، وتتلوى مبتعدة”. كل حكاية متعرجة ومعقدة تحمل صمتًا وأسراراً، تقترب وتتراجع وهي وجهات نظر ضائعة مع مرور الوقت أو مكبوتة خجلا.
نادرا ما يَعرفُ النازحون والمهاجرون والمنفيون الذين يملؤون كتبه قصصهم الخاصة، والتي تتضح لهم ببطء فقط، مع مرور الوقت، من خلال الكشف عن وجهات نظر الشخصيات الأخرى وتاريخها الأكثر تعقيدًا. مثل سليم في قصة Gravel Heart 2017 ، حيث نجد أنفسنا نحن القراء “نجمعُ ببطء شظايا محيرة” لإبراز الأحداث وعواقبها وأن نضعها في بؤرة التركيز.
وحتى في هذه الحالة، يتم تذكيرنا دائما بأنّ فهمنا جزئي فقط. في عالٍم معاصر موبوء برهاب الأجانب والعنصرية، تدفعنا روايات قرنح إلى الهدوء وإلى الإنصات لما يقول، وللتحقق من أبعاد فهمنا السطحي للقضايا. قد نسأل لماذا وبأيّ أعباء يجد الناس أنفسهم يعبُرون هذه الفجوات بين القارات والثقافات، وما هي الخصائص المميزة للتجربة الشخصية التي قد تحدد حواسهم، والأماكن غير المتوقعة التي قد يجدون فيها الانتماء. وأثناء قيامنا بذلك، قد ندرّب أنفسنا على توقّع التعقيد والغموض والعمق كذلك.
تتمحورُ قصص قرنح حول أجزاء معينة من العالم، لكنها تذكرنا، حتى في خصوصيتها، إلى أي مدىً يمكن أن نكون مخطئين بشأن بعضنا البعض، ومدى ضآلة معرفتنا، ربما حتى بأنفسنا. عند قراءة قرنح، قد نتعلم أنه فقط إن توخّينا الحذر في كشف الضرر الذي ألحقناه ببعضنا البعض، يمكننا الاقتراب من فهم العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ نوبل الأفريقية:
. i Wole Soyinka (1986), Naguib Mahfouz (1988), Nadine Gordimer (1991),
J.M. Coetzee (2003) and Doris Lessing (2007).
ــ انتفاضة ماجي ماجي ، بالسواحلية Maji Maji : هي تمرد مسلح للأفارقة الإسلاميين ومتبعي الديانة الإحيائية ضد الاستعمار الألماني في شرق أفريقيا عام 1905 إلى 1907 . وقتل خلالها نحو 300.000 معظمهم من المدنيين بسبب المجاعة. المترجم