نقوش على الذاكرة
سليمان البيوضي
(لا شيء يمر في حياتك عبثا، حتى تعثراتك الصغيرة، كانت لأجل أن تعرف شيئا ما) إبراهام لينكون
لقد بحثت بشكل دقيق عن افتتاحية لهذه المقالة، وهذه المقولة أثارتني بشكل خاص، ووجدتها معبرة عن تجربة مؤلمة ولحظات صعبة، لن تمحى من ذاكرتي المملوء جبينها بالندبات!.
لقد قررت أن أكتب وأعود لحياتي الطبيعية، محمّلا بالأمل والإرادة، ومؤمنا بأن القدر ليس خيارا فحسب …. بل إكسيرا لسرّ الحياة والوجود .
هذا القرار اتخذته عن قناعة بأن القادم لن يكون أرضا مفروشة بالورود، لكنها خطوة طبيعية عندما تكون معتقدا بأن كلا منّا مُسيَّرٌ لما خلق له …. وسيكون الخيار أكثر رسوخًا عندما ينجيك الله من الموت مرتين في ثلاثة أيام، الأولى على الأرض والثانية في السماء …. (نعم في السماء !!) ….. لا تستغربوا فعلى متن الطائرة التي انتقلت على ظهرها لتونس لتلقي العلاج، تعرضت لفقدان وعي ” طفيف ” بسبب هبوط حاد للضغط وجهد عال لعضلة القلب ” في النهاية ” أنا بخير ….. (لأن الله يحبني دون شك).
جيد … سأعود الآن لجوهر القضية … (الله يحبني) … هذه جملة ستشهد تأويلات عديدة ومتنوعة وستعطي أوصياء الله فرصة جيدة … لتقرير ذبحي مرة أخرى، بعد فشل محاولتهم لاغتيالي في الثاني من ديسمبر، فالأوامر الصادرة لهم دون غيرهم تحتّم عليهم قتل (العلمانيين والمبتدعين وعبدة الطاغوت وعبدة الشيطان والديمقراطيين و… غيرهم) ، إن ذبح أحد الفاسقين الذي تنطبق عليه إحدى قواعد هذه الرزنامة أو كلها سيكون قربانا جيدا للتعبد !؟
خلال سنوات عملت في الشأن العام صحافيا وسياسيا، طالتني الكثير من التوصيفات والشائعات -التي لن تتوقف- وعليه فلست ملزما بتبرير أي منها، بل إني أتقبلها دفعة واحدة، لأنها لن تغير من واقع الحال شيئا!
لعل ما يثيرني أحيانا كثيرة، ويحرك الهواجس هو إرث من البيئة الصوفية التي تربيت فيها، إذ إنها لا تؤمن بهذا النوع من الانخراط المفرط في الشأن العام، فهي تؤمن بالروحانيات التي يراها “أوصياء الله” باطلا، ونراها حقا أبلج، وخلافا لوصايا سيدي أحمد الرفاعي الكبير -رضي الله عنه- الذي يقول: (إياك والتقرب لأهل الدنيا، فالتقرب منهم يقسي القلب) ها أنا منخرط بالشأن العام، متخالفا مع تربيتي العقدية، لكن من المؤكد أني لا أتعامل مع السياسة من منطلق أيدلوجي ديني، بيد أنها تربية أعطتني سانحة لتحليل وتقييم عمل قوى الإرهاب والبغي السياسي من الحركات الإسلامية الرديكالية، التي يحرص قادتها على تقديم أنفسهم كأوصياء لله فهم -الربانيون- كما يسمون أنفسهم، وعلينا أن نتبع ملتهم لننعم بالرخاء الدنيوي والجنة السماوية، فالفتاوى المعلبة التي يطلقونها تلزمنا طاعتهم باعتبارهم ولاة أمرنا وأهل الحل والعقد فينا، ويفترض بِنَا أن نهجر صناديق الاقتراع لأننا قد نصوت لكافر ونترك المسلم الزاهد (الذي سيسرقنا وسيجلدنا وسيذبحنا باسم الله)!
إن المؤلفة قلوبهم من حزب التائبين الخاسر والمنحسر لا يستحي أبدا في أن يعيش متلونا، فهو يطبق المثل اليهودي “الكبار يموتون والصغار ينسون “، بل إن كبيرهم الذي علمهم السحر -يجتهد- في ذلك، فلعل أبرز مثال صارخ نعيشه الآن أنه في لحظة احتياجهم لاستمالة طيف من الشعب الليبي، تسلح باجتهاده وربانيته ليؤلف كتابا يضمهم للإسلام بعد عقدين فقط من إخراجهم منه -باجتهاده أيضا-، وهنا تتجلى حقيقة منهجيتهم في قضايا الولاء والبراء، هذا النوع من التنظيمات الإرهابية لا يسعى للحكم بالوصاية الإلهية فقط، بل نموذجهم للديمقراطية والحقوق وإنفاذ القانون يحتم عليهم أن يفضّلوا لنا جيشا وشرطة غير الذي عرفه العالم والليبييون يوما.
وبالمناسبة السنوات العجاف في ليبيا فرزت بشكل واضح هذه المجموعات بشكل ديناميكي، ومن بقي منها يستخدم أدوات العنف السياسي “الاغتيال والتفخيخ والانغماس” فئات محددة صنّف منها ثلاث جماعات إرهابية في نص الاتفاق السياسي الليبي، وبقت واحدة يتربع أحد أعضائها على رأس سلطة هشة في ليبيا .
من دون شك ليبيا بحاجة لنقاش جريء في أحد أهم جوانب الحياة العامة والديمقراطية، وهو أي شريعة إسلامية يجب أن يحتكم لها الليبيون تبعا لتعدد المذهبية فيها، لكن هذا لا يعني أبدا أن نسلّم رقابنا لمرشد أو أمير من وراء حدود، ويبقى الأمر محكوما بقدرة الإرادة الليبية على فتح هذا النقاش السلمي على أرضية صلبة و شجاعة.
حسنا …. ليس من المنطق أن استمر في هذا الهجوم أو محاولة إعادة صياغة المفاهيم، فالوعي الوطني الجارف على الأرض في ليبيا، مستمر في جرفهم وأفكارهم الرثَّة ليرسلهم قريبا للبحر، فلا جذور لهم في هذه الأرض – وإن بدا لهم غير ذلك – ، فالدرس القاسي الذي تلقاه الليبيون خلال سنوات من الحرب والحوار كان كافيا لمعرفة حقيقة عدوهم الذي لَبِس جلباب الثورة وأصبغها بشيء “من رَوْح الله “.
في النهاية …. أنا أكتب لسببين:
الأول : لأشكر الله على نعمته، وأشكر كل أولئك الأوفياء الذين أحاطوني بمحبتهم، وصدق مشاعرهم، والآخرين الذين سمحوا لي أن أرى ” الحقيقة على علاتها” .
والثاني : لأُعيد تأكيد الموقف الذي اخترت المضي فيه، وهو المطالبة بحقنا بدولة وطنية تملك سيادتها وأمنها وإرادتها، ملتزمة باحترام الحقوق والقانون والشفافية ومحاربة الفساد، على أن تحظى بديمقراطية تعددية ترفض المساس بقيم الدولة الوطنية ومبادئها، وسأناصر دائما مشاريع الحفاظ على وحدة التراب الوطني ورفض وجود الجماعات العابرة للحدود في الحياة السياسية الليبية، بوصفها عدوا حقيقيا لقيم المجتمع الليبي ومستقبله ووحدة أراضيه.