نفد صبر سلامة
طه البوسيفي
اللبناني الذي تَعوّد على السير في شارع الحمراء وسُلطت عليه أنوارُ باريس ورنّ صوته في قاعات السوربون ونسخت الريشة ودَواةُ الحبر أفكارَه إلى كتبٍ فكرية قيمة وجدَ نفسه بعد رصيدٍ معرفي وخبرات وتجارب في ليبيا مبعوثاً أممياً يُجري وساطات بين عقيلة وجوقته والسويحلي وزبانيته !! يا له من قدرٍ رمى باللبناني الناعم في صحاري ليبيا الجافة والحارة والقاسية والتي انعكست على الساسة فوجدناهم قساة غلاظ شداد.
اللبناني صرح بعد عودته من إجازته بأن صبره قد نفد: قد تُفهم هذه الجملة بأنّ صبر اللاعب الدولي المتدخل في الأزمة الليبية قد نفد، وقد تقرأ أيضاً بأن اللبناني سئِم من المحاولات التي لا تؤدي إلى هدف والتي تحوم في الفراغ تائهة لا تعرف السبيل، وقد تُفهم أيضاً بأنّ البلد أصبحَ على شفا حفرة من الحرب التي قد تكون هذه المرة حرب كسر العظم وتهشيم الجماجم، لا حرب ليّ الذراع والضغط السياسي لكسب موقف تفاوضي أقوى.
حاول اللبناني بكل حماسٍ وهدوء وثقةٍ وذكاء أن يلعب دور الوسيط وأن يتفنن فيه وأن يتقيد بمعايير الوظيفة وشروطها، لكنه اصطدم ومنذ الأيام الأولى بمجموعةٍ من (الحرجانين) إن جاء يرضيهم ازداد نظرائهم حرجاً، فزادوا على اللبناني كمّ الزعل ورموه بما ليس فيه حتى وصل البعض حد التخوين في حالةٍ فجور في الخصومة وجهلٍ واضحَيْنِ كأن يقال طارق متري إخواني !!.
الخطأ كل الخطأ من حيث المبدأ يقع على غسان سلامة ، فهو الذي قبلَ ورضيَ بالمجيء إلى ليبيا ولعب دور الوساطة بين (الحرجانين) فيها، دورٌ صعبٌ خصوصاً في الدول التي تشهد نزاعات وحروباً، فالحالة مضطربة، والأعصاب مشدودة، والكل متربصٌ بالكل، الأمثلة كثيرة في الدول القريبة منا، دي ميستورا في سوريا لم ينجح في كل المحاولات في جنيف، تاه بين وفد المعارضة وبين خبث بشار الجعفري، أيضاً إسماعيل ولد الشيخ أحمد في اليمن لم يستطع بلورة اتفاق نهائي للأزمة، فعناد الحوثيين ورقص صالح -المرحوم- على رؤوس الثعابين وتمسك هادي بورقة الشرعية كلها عوامل مع أخرى إقليمية -السعودية وإيران- جعلت من الموريتاني يندم على اليوم الذي فكر فيه بأكل المعصوب اليمني في مطاعم صنعاء والتجول في سواحل عدن وإيجاد صيغة توافقية تحمي ميناء الحديدة .
كانت التقديرات من قِبل خبراء السياسة في ليبيا أن يفشلَ سلامة في مهمته، جزءٌ منها يقع على الليبيين، وجزء آخر يتحمل مسؤوليته سلامة وحده لأنه أهمل الأطراف الفاعلة على الأرض وراح يرمم تشوهات مولود الصخيرات ويدعِّم أركانه بألواح الأعمدة كأنه مقاول لا مبعوث أممي يتوجب عليه أن يسير في خط مستقيم والذي هو قطعاً أقرب مسافة بين نقطتين، نقطة المشكلة ونقطة الحل، لكن سلامة سار في مسالك وعرة كاللبناني الآخر الذي ألف كتاباً عنوانه يعكس صعوبة المهمة التي هي أشبه بالانتحار في مضمار السياسة.
يا سلامة لقد سلمك غوتيريش مهمة صعبة حلها أشبه بالمستحيل اليوم، لكن أزمة ليبيا وإشكالية السلطة ستحل عاجلاً أم آجلاً، قَطعاً سيحدث ذلك بشرط خسارة الكل وشرط حتميُ التحقُق وهو أن تصبحَ الهزيمة عدلاً يوزّع بالتساوي على الجميع، سيحل الليبيون أزمتهم وهم مضطرون لحلها، حين تهوي العملة إلى الدرك الأسفل، وحين تصبح السماء سوداء بفعل الحرائق الناجمة عن تدمير خطوط النفط ، سيحل الليبيون أزمتهم حين يتخلون عن قناعةٍ أنهم شعب غني يملك الثروات.