نزاهة المترجم
عمر أبو القاسم الككلي
لم تعد أهمية الترجمة، بوصفها تفاعلا وتخاصبا حضاريين، محل جدال واعتراض. فحتى الذين يعارضون الترجمة من لغات وثقافات أخرى إلى لغتهم وثقافتهم، بحجة التحصين ضد الغزو الثقافي، يرحبون بترجمة، على الأقل، بعض كتب تراثهم وإرثهم الحضاري إلى لغات أخرى.
وفي القيام بعبء الترجمة مسؤولية أخلاقية ثلاثية الأبعاد (1) تتمثل في مسؤولية الأمانةإ زاء المؤلف الأصلي الذي يتولى المترجم النيابة عنه في ‘‘رعاية مصالحه المعنوية‘‘ لدى قاريء في لغة أخرى”. مع ما يتضمنه ذلك من أمانة “إزاء العمل الذي يترجمه، كونه أصبح يتمتع بشخصية مستقلة عن المؤلف” (1). أما في البعد الثاني فثمة”مسؤولية إزاء قاريء هذا العمل في اللغة الجديدة، الذي يتعهد المترجم، ضمنيا، بأنه يقدم إليه ترجمة لا تبتعد عن النص الأصلي إلا بالقدر الإجباري الذي يحتمه اختلاف اللغتين، المترجم منها والمترجم إليها (أي القدر الضروري من الخيانة)” (1). البعد الثالث ينظم البعدين السابقين”ويتمثل في صدق المترجم مع نفسه وتحليه بالنزاهة بالدرجة التي تمنعه من الإقدام على ترجمة ما لا يكون قادرا على ترجمته” (1).
إن عدم صدق المترجم مع نفسه والتسليم بحدود قدراته يؤدي به إلى الإخلال بالأمانة المثلثة الأبعاد التي أوضحناها أعلاه. من ذلك المثال التالي من ترجمة منذر عياش لمقالة جاك دريدا التي عنوانها “مسألة الغريب: جاءت من الغربة”:
“قبل أن تكون المسألة سؤالا للمعالجة، وقبل الإشارة إلى متصور وموضوع وقضية وبرنامج، فإن سؤال الاغتراب هو سؤال الغريب، وإنه السؤال من الغربة قد جاء، فهو سؤال الغريب، وهو سؤال موجه للغريب، وإن هذا ليكون كما لو أن الغريب كان قد طرح، بادىء ذي بدء، السؤال الأول، أو كما لو أنه قد كان ذلك الذي نطرح عليه السؤال الأول. وسنفعل متظاهرين أن الغريب هو الموضوع نفسه، وكذلك هو الكائن السؤال أو موضوع السؤال…” (2: 95)*. فهنا “تسلمنا جملة إلى أخرى، وجميعها لا يضيف إلينا سوى طلاسم، من المفترض أننا سنقوم بحلها أو فهمها”. (2: 96)
ذلك أنه “على المترجم أن يكون واثقا وهو يترجم، أو وهو ينقح ترجمته، من أنه يفهم، هو شخصيا قبل القاريء، أو باعتباره قارئا،سياق المعنى(ظاهر النص)، وأحيانا حتى سياق الدلالة(باطن النص) في ترجمته الناجزة” (1).
ملاحظات على ترجمة إنجليزية
نأتي الآن إلى إبداء بعض الملاحظات على ترجمة لمادة عربية إلى الإنجليزية. منذ فترة نشر موقع جدلية(3) مقتطفات من كتابي” سجنيات” مترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل Sebastian Anstis. سنتوقف هنا عند أمثلة صغيرة كان الخطأ فيها واضحا.
أول مقتطف عنوانه في الإنجليزية” In the beginning was the Word (forbidden) الذي تمكن ترجمته إلى العربية:”في البداية كانت كلمة(ممنوع)”
لكن العنوان الأصلي كان: “في البداية كان[منع] الكلمة”
أي أن الترجمة الإنجليزية كان ينبغي أن تكون:
In the beginning was (forbidding) the Word
عنوان مقتطف آخر ترجم إلى:” Mercy killing” قتل رحيم. العنوان الأصلي كان”قتل وقائي” الذي أرى أن ترجمته إلى الإنجليزية كان ينبغي أن تكون على النحو التالي: Precautionary(or Preemptive) killing” ”
داخل هذا النص نفسه ورد في الترجمة الإنجليزية:
I asked the artist Abdelaziz Al-Ghorabli, who was being released, to bring a notebook to the writer’s association.
سألت الفنان عبد العزيز الغرابلي، الذي كان قد أطلق سراحه، أن يأخذ الكراس إلى رابطة الكتاب.
في حين أن النص الأصلي يقول:
“طلبت من الفنان الراحل عبد العزيز الغرابلي(زيزو) أن ينقل بخطه إحدى القصص ويجعلها على هيئة كراس مزود بلوحة غلاف”.
في مثل هذه الترجمات غير المسؤولة يكون القاريء العادي ضحية الإحباط والتضليل ذلك أن “القاريء المثقف المتمرس يستطيع الحكم على جودة أية ترجمة، من أية لغة، منذ الصفحات الأولى. لا يحتاج القاريء المثقف إلى أن يكون عارفا باللغة المترجم منها ولا إلى مضاهاة الترجمة على الأصل كي يتأكد من سلامة الترجمة، فهو يلمس هذه السلامة من تماسك الترجمة في لغته ووضوحها واستواء السياقات” (1).
المراجع:
1- عمر أبو القاسم الككلي. الترجمة والمسؤولية الأخلاقية. موقع كيكا.
2- مدحت صفوت. السلطة والمصلحة، إستراتيجيات التفكيك والخطابُ العربي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2017
* يشير الرقم الأول إلى رقم الكتاب المرجع في قائمة المراجع والرقم الثاني إلى رقم الصفحة المأخوذ عنها.
3- Omar Alkikli, PrisonSketches, Translated from the Arabic by Sebastian Anstis.Jadaliyya website.