نداء (راكم تسيّبوني) والمغالبة الأميركية
فرج الترهوني
ربما لم تكن تلك الحادثات أمام مبنى مفوضية الانتخابات ومبنى المحكمة في سبها بالغة الغرابة، عندما احتشد عدد من المواطنين لمنع ما يرونه مخالفا للنهج الديموقراطي أو للإمعان في الإساءة إليه، فليبيا في النهاية حديثة عهد بالديموقراطية، وبعد عقود طويلة من الاستبداد ربما لم تقترب من تخوم مجرّتها بعد، وقد يعيبُ كثيرون على “عبد الحميد الدبيبة” ويتندّرون على قولته الشهيرة (راكم تسيّبوني، أنا موش مسيّبكم!!) لكن إذا ما استعدنا ما فعله ترامب في 6 يناير، فقد نجد للدبيبة الأعذار كلّها. يحل بنا يوم السادس من يناير 2021 حاملا معه ذكرى قاسية للأميركيين ولغيرهم في العالم الذين يتطلعون إلى نظام الحكم في أميركا بعين التقديس، أو على الأقل بأنه الأفضل الموجود حتى الآن. فحتى بعد مرور عام، من الصعب تصديق أن كل ذلك حدث في الولايات المتحدة، التي كانت لفترة طويلة منارة الديمقراطية للعالم. ويرى كثيرون في أميركا وحول العالم أن السادس من يناير 2021 كان مجرد يوم سيئ السمعة في التاريخ وسيظل وصمة عار في التاريخ الأمريكي ستتردد لزمن طويل. فما وُصف بتمرد الكابيتول الأميركي كان تتويجًا لحكم رئيس ديماغوغي منحرف، ومحفزًا للهجوم على النظام السياسي في أمريكا القائم منذ قرون. وأضفى الهجومُ غير المسبوق شرعيةً على العنف كأداة للتعبير السياسي بين ملايين المواطنين، وقد يكون مجرد عينة لتحوّل أعمق عن نظام ديمقراطي عُدّ الأكثر رسوخا ومتانة في العالم.
لقد كشفت ساعات الرعب الذي أشعله دونالد ترامب بتحريض الحشود على “القتال بكل قوتهم” لإنكار إرادة الناخبين أنّ قطاعات كبيرة من الحزب الجمهوري قد رفضت مبدأ الديمقراطية الموسعة التي يقوم عليها النظام الأميركي، عندما تسلّق الجمهوريون من أنصار ترامب مبنى الكابيتول لإطلاق مخططٍ لقمع إرادة الناخبين على مستوى البلاد، وأفسح المجال لإمكانية سرقة الانتخابات المستقبلية.
كذلك أوقف الهجوم على الكونغرس ما يقرب من قرنين ونصف القرن من عمليات النقل السلمي للسلطة وجلب يوم السادس من (يناير) فكرة مفادها أن الديمقراطية قد لا تبقى في الواقع إلى الأبد. كما كشف بوضوح تام أن القوى الاستبدادية التي كانت تشغل بال الآباء المؤسسين للدولة الأميركية قد انطلقت من عقالها لتدمير فكرة الديموقراطية التي تأسست منذ أكثر من قرنين من الزمان.
ووصف رئيس لجنة مجلس النواب للتحقيق في التمرد ما حدث بقوله “لقد اقتربنا بشكل خطير من فقدان ديمقراطيتنا”.
بدأت القصة الكارثية برئيس جعلَ غروره المتفجر وازدرائه للقوانين الحاكمة من المستحيل عليه الاعتراف بالهزيمة بعد أن أعلن زوراً فوزه في انتخابات 2020. وتلت ذلك أسابيع من الأكاذيب والقضايا غير المدعّمة بالأدلة ومحاولات إجبار القادة المحليين في الولايات على تنصيبه لولاية ثانية وكلها باءت بالفشل. وانطوت الخطة كذلك على استدعاء ترامب المؤيدين له لتجمع في واشنطن في اليوم نفسه الذي كان من المقرر أن يشهد فيه الكونغرس قيام نائب الرئيس، بإعلان فوز جو بايدن في انتخابات عام 2020.
وأثناء اجتماع الكونغرس أطلق ترامب عباراته الشهيرة التي ألهبت مؤيديه بقوله “إذا لم تقاتلوا بكل عنف، فلن يكون لديكم بلدٌ بعد الآن”
وطبعا لم يضع ترامب نفسه في طريق الأذى. وإنما انسحب إلى البيت الأبيض الآمن لمشاهدة الفوضى تتكشف على شاشات التلفزيون بينما اجتاح مؤيدوه معقل الديموقراطية في واحدة من أقسى المشاهد التي شوهدت على الإطلاق تحت قبة الكابيتول.
وحتى بعد تجريده من موقعه على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن سلطة ترامب على مؤيديه تكاد تكون خارقة للطبيعة وتدعمها صناعة وسائل الإعلام المحافظة، التي تروج للكذب، والتي أعادت كتابة تاريخ 6 يناير لمشاهديها.
قال زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر هذا الأسبوع: “إذا لم نتحرك لحماية انتخاباتنا، فإن أهوال السادس من كانون الثاني (يناير) لن تصبح استثناءً بل القاعدة”.
ربما قد يدافع عدد كاف من المسؤولين المحليين عن الديمقراطية مرة أخرى في اللحظة الحاسمة. كما أن الإقبال الكبير من الأمريكيين العازمين على ممارسة حقهم الديمقراطي يمكن أن يحبط عملية قمع إرادة الناخبين.
ولكن بعد مرور عام، كان درس 6 يناير هو أن ما كان يُعتقد أنه مستحيلٌ، يمكنُ أن يحدث. والتهديد الذي يواجه الديمقراطية الأمريكية الآن أكبر مما كان عليه عندما حوّل ترامب جماعته ضد الدستور. لكن وقد بدأتُ المقال بفكرة المغالبة في كل من ليبيا وأميركا، التي يلجأ إليها القادة المستبدون للبقاء في السلطة خلافا لنصوص الدستور، كلّ على طريقته، وجب التذكير بأننا في ليبيا لا نملك ترف أن يكون لدينا دستور أسوة بكل بلدان العالم…