نحو هويةٍ معرفيةٍ لفزان
المهدي التمامي
كثرت في الآونة الأخيرة في ليبيا؛ ظاهرة المواثيق، وفي فزان خاصةً؛ فبين فترة وأخرى تظهر علينا مؤسسةٌ معلومةٌ أو مجهولةٌ، ببيانٍ أو دعايةٍ لعقد ميثاق اجتماعي يُؤسّس للمستقبل السعيد، لكنني أرى أن المواثيق تكون طويلة النفس في الغالب، بينما الظرف في فزان، مثلاً، يتطلب حلولاً سريعةً، تنحصر في قضية واحدة فقط دون غيرها، وهي قضية “المصالحة” في نطاق ضيق جدًا بين مكوّنات بعينها؛ لأن في صلاحها صلاح بقية الإقليم.
لا أحد ينكر بقية القضايا التي تمثل الأولويات، كالتنمية، وتفعيل القطاع الخدمي، وما ينتج عنه من تحسين ورفع المستوى المعيشي للمواطن الجنوبي، لكنني أرى، ويرى معي كل ذي بصيرة، أن المشكلة الرئيسة للجنوب، تعود تداعياتها، كما ذكرت سابقًا، للتضاد الدامي بين بعض المكوّنات القبلية، فإذا تم رأب الصدع بينها؛ فإن حال الجنوب سيستقر دون أي فلسفة أخرى، بعيدةٍ عن واقعه المعاش.
ومع الاحترام والتقدير لكافة المجتهدين في هذا الجانب التأطيري للأمل والتفاؤل، واحترام عصفهم الذهني المضيء؛ إلا أنني أؤكد على الاقتراب والاشتباك مع منابع الخلل مباشرةً ومحاولة محاورتهم وإخراجهم من نفق الخراب، ومن هذا المنطلق؛ فإن علينا العمل والانطلاق من الداخل، أي قريبًا من الأرض المجروحة، حتى يتسنى لنا المُعاينة، والمُعايرة، والتقييم، ومن ثم نكون قد سننّا سنّة السلام من خلال مدّ جسور الثقافة التصالحية بين الأطياف الاجتماعية كلها؛ فغالبية الاجتهاد الفكري والإصلاح الاجتماعي، اليوم، يؤكد على ضرورة تجديد المفاهيم؛ خصوصًا حول قضايا حساسة كالهوية والمواطنة، واختبارها عن طريق رؤية نافذة تُشير إلى مكامن الخلل، فنحن في فزان مثلاً، إذا لم نصل إلى ترسيخ هوية تصالحية؛ فلن نتمكن من إدارة الاختلاف بشكل مفيد، فما يسمى بـ”الهوية المعرفية”، هو المنقذ من كل هذه الكارثة التي تتبناها الجذور القديمة وهي تمدّ، عبر نسيجها القاتل، الفروع الجديدة بأفكار الموت والإقصاء والأحادية، عبر القبيلة والجهوية والتعصب الأعمى ضد تداول الأيام، فوق أرضية من الإعلام المأجور الذي يخترق أغوار النفوس البسيطة وسطحية العقول، ليُحاصرها في أبجدية يتيمة تعجز عن قراءة الشفاء في لغة الآخر.
أرى أننا، وفي ظل هذا التطور التشاؤمي الذي يحدث في فزان؛ قد نكون في أمسّ الحاجة إلى تربيةٍ حقيقيةٍ على المواطنة والمدنية، لقطع الطريق على القناعات البدائية الكامنة في نفوس الغالبية من أهل فزان، ولن نجد خلاصًا إلا عن طريق تلك التربية، فالشعور بالمواطنة والمدنية يجعل من قيمة الانتماء للوطن طاقة إيجابية تستوعب جميع التناقضات القبلية المناطقية البغيضة.
إذن؛ فالأجدر بجميع النخب في فزان، ومؤسسات المجتمع المدني، وبقية الفئات المستنيرة هناك، أن تُكرّر رفض الممارسات غير المدنية في فزان،فهم يتحاورون حولها في ظروف مناسبة وفي جهات مطمئنة أيضًا.. لكنهم للأسف يرفضونها ويدينونها بشدة، عندما يتألمون منها وتصل إليهم تداعياتها بغتةً ليكونوا ضمن ضحاياها الكثيرين.
إن المقولات الأخلاقية للنخب الواعية بقتامة المستقبل هي على المحك، الآن، فما أن تتأخر النخب عن مناقشة هذه المحاذير؛ فإن الفرصة ستكون سانحةً للجهلاء لتصدر المشهد، والعبث بكل أرصدة الحكمة والأخلاق التي من الممكن أن تُعيد الأمن والسلام لأهالي فزان الطيبين.