مَن سيقود العربة الألمانية؟
جمعة بوكليب
لتجارب التاريخ دور في تصميم ورسم مسارات السياسة الألمانية المعاصرة، وفي تشكيل طبيعة نظامها السياسي، كما في غيرها من دول العالم. فقد انتهت الانتخابات النيابية مؤخراً، ولم يتمكن أي من الحزبين الرئيسيين من الحصول على أغلبية برلمانية تتيح له التقدم، والجلوس وراء مقعد القيادة، واختيار ما يناسبه من الشركاء في قيادة البلاد.
طبيعة النظام السياسي الألماني المؤسس على التمثيل النسبي، حتَّمت عدم سيطرة حزب على مجرى العملية السياسية. ظلال الماضي الألماني، في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين وخلال الحرب الأخيرة، والتجربة المُرة المتمثلة في سيطرة النازية وما جرّته من ويلات على ألمانيا والعالم، ما زالت تلقي بظلال كثيفة على الحاضر، وتحدد مجراه. وهذا بدوره أفضى بالقوى السياسية – الدولية ممثلة في دول الحلفاء المنتصرة والألمانية – في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما أدت إليه من نتائج، إلى التوافق حول إيجاد وترسيخ نظام سياسي بديل، قائم على تأسيس ائتلافات بين عدة أحزاب، بما يضمن عدم انفراد حزب بالسلطة. على العكس من ذلك تماماً، تأسس النظام السياسي البريطاني على نظام انتخابي يضمن انتخاب حزب واحد، لقيادة العملية السياسية. هذا التأكيد مستمد من التجربة السياسية التاريخية ممثلة في وجود ملك قوي بيده كل مقاليد الأمور، وعدم ظهور أحزاب سياسية متطرفة.
قد يفشل النظام الانتخابي البريطاني، لأسباب عديدة، في فرز حزب بأغلبية برلمانية مريحة لتحقيق الهدف المطلوب. لكن نسبة الإخفاق تلك ضئيلة حين تقارن بنسب النجاح. وعلى سبيل المثال، كانت آخر إخفاقات النظام الانتخابي في انتخابات عام 2010، حيث لم يتمكن أي من الحزبين الرئيسيين في الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة، ونجح المحافظون بقيادة ديفيد كاميرون في انتهاز الفرصة بعقد ائتلاف مع حزب الأحرار الديمقراطيين، وتمكنوا من إبعاد حزب العمال عن السلطة. لكن في انتخابات عام 2015 تمكن المحافظون من إحراز أغلبية برلمانية مريحة أتاحت لهم الفرصة للتخلص من ائتلافهم مع حزب الأحرار الديمقراطيين، وإمساك كل مقاليد الأمور بأنفسهم.
وكما حدث في نتائج الانتخابات الألمانية، التي انتهت في الأيام القليلة الماضية، لم يكن ممكناً التكهن بمن تحديداً سيخلف أنجيلا ميركل في منصب المستشار. المرونة والسرعة في الحركة، والقدرة على إيجاد أرضيات مشتركة لو حدثت مع أحزاب صغيرة أخرى، ربما تسهم في استمرار المحافظين ممثلين في حزب الاتحاد المسيحي لمواصلة قيادة ألمانيا لأربع سنوات أخرى. الأمر نفسه ينطبق على الحزب الاشتراكي المنافس. الجدير بالذكر، أن النتيجة الانتخابية النهائية، وكما حدث في انتخابات سابقة، منحت الحزبين الآخرين – الأحرار والخضر – رغم صغرهما، فرصة تقرير مصير من سيتولى المستشارية. وإلى حين تحقق ذلك، ستواصل ميركل، لحسن الحظ، تصريف الأمور، ويتوقع استمرارها في أداء الدور المؤقت إلى نهاية العام الحالي.
النتائج النهائية للانتخابات وضعت الحزب الاشتراكي في وضع متقدم نسبياً بحصوله على نسبة 25.7 في المائة من الأصوات. في الانتخابات السابقة، حظي الحزب بنسبة 20.5 في المائة. حزب الاتحاد المسيحي الحاكم خلال السنوات الست عشرة الماضية تحصل على نسبة 24.1 في المائة، واستناداً لتقارير إعلامية، تعد الأسوأ في تاريخه كله. وكان حزب الخضر يأمل في الحصول على نسبة 20 في المائة من الأصوات، لكن النتائج أظهرت حصوله على 14.8 في المائة فقط. في حين لم تتجاوز نسبة حزب الأحرار من الأصوات 11.5 في المائة. ما تحصل عليه الحزبان الأخيران الصغيران معاً من الأصوات يتجاوز نسبة ما حصل عليه أي من الحزبين الرئيسيين. التنافس بين زعيمي الحزبين الرئيسين أولاف شولتز مرشح الحزب الاشتراكي لتولي منصب المستشارية ومنافسه المحافظ مارتن لاشيت، دخلت طوراً متقدماً، نظراً لقناعة كل منهما بأحقيته بكرسي المستشارية. ما يلفت الاهتمام إلى أن طبيعة النظام السياسي الألماني لا تؤكد أحقية من يأتي في الترتيب الأول في الانتخابات بتولي المستشارية. ويرى محللون سياسيون ألمانيون أن وجود متنافسين على المنصب من دون اعتراف أحدهما بهزيمته وأحقية الآخر يدخل بالبلاد في دوامة سياسية. وهذا بدوره يجعل كل عواصم أوروبا تتابع بحرص واهتمام تطورات الموقف في برلين، وما سيسفر عنه.
والسبب هو أن صعوبة المفاوضات بين مختلف الأحزاب قد تجعل ألمانيا في حالة ما يشبه الشلل. المعلقون يشيرون إلى ما حدث عقب انتخابات عام 2017، حيث استغرقت المفاوضات قرابة ستة أشهر، قبل أن تتمكن ميركل من تشكيل حكومتها الرابعة.