موسم الهجرة «غير المشروعة» إلى الشمال
جمعة بوكليب
مَنْ منا لا يتذكر رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» رائعة الروائي السوداني الطيب صالح، رحمه الله؟ ما زالت تلك الرواية، حتى بعد سنوات طويلة على صدورها، محط اهتمام الباحثين، وما زالت الدراسات حولها تكاد لا تتوقف في الدوريات الأدبية العربية والأجنبية. تلك الرواية على أهميتها، في رأيي، أغمطت الطيب صالح حقه ومنزلته، بأن غطت على بقية نتاجه الأدبي، حتى صار لا يُعرف إلا بها. وسبق لي، في فترة مبكرة من عمري، أن قرأتُها مرة واحدة، ولم أعد إليها. لكني كلما هفت روحي إلى إبداع الطيب صالح الروائي ألتجئ إلى قراءة رائعته المعنونة «عُرسُ الزين» التي أُعدّها من أجمل وأمتع الأعمال الروائية. لكننا، في هذه السطور، لسنا في مجال التعرض إلى تلك الرواية ودلالاتها، بقدر ما نود التعرض إلى موسم هجرة أخرى إلى الشمال. هجرة غير مشروعة، استأثرت خلال السنوات الأخيرة باهتمام الساسة ووسائل الإعلام ومنظمات الإغاثة وحقوق الإنسان. أبطالها أفارقة وآسيويون، قطعوا صحاري وبحاراً، هرباً من الفقر، تاركين وراءهم عائلاتهم وحيواتهم في بلدانهم، ومتعرضين للتعب والمهانة والاستغلال والابتزاز من قبل تجار تهريب البشر، ومغامرين بعبور البحر المتوسط، على أمل الوصول إلى شواطئ أوروبا أحياء، وخوض غمار تجربة حياة جديدة، تضمن لهم عيشاً كريماً. آخر التقارير الرسمية المنشورة في وسائل الإعلام تؤكد موت أكثر من 700 منهم غرقاً هذه السنة، حتى الآن.
مع بداية فصل الصيف هذا، وتغير أحوال الطقس، وجنوح أمواج البحر المتوسط للهدوء والسكينة، بدأت شواطئ جزيرة لامبيدوزا السياحية في إيطاليا تستقبل قوارب تحمل على متنها مهاجرين قادمين من تونس والجزائر، ومن بلدان الساحل الأفريقي، ومن بنغلاديش، وأفغانستان، وسوريا ونيجيريا. ما يلفت الاهتمام، أن نسبة أعداد التونسيين ضمن المهاجرين كبيرة بشكل ملحوظ، وأن نسبة كبيرة منهم من صغار السن، وبعضهم، كما تؤكد التقارير الإعلامية، لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. عدد سكان لامبيدوزا لا يتجاوز 6.500 نسمة، وعدد المهاجرين الذين وصلوا إليها قبل يوم 11 من هذا الشهر بلغ 16 ألف مهاجر مقارنة بعدد 5.500 مهاجر في الشهر نفسه في العام 2020، 1200 مهاجر منهم وصلوا خلال عطلة الأسبوع الماضي. في حين أن قوارب خفر السواحل الليبية تمكنت من اعتراض 1000 مهاجر آخر في عرض البحر، وأجبرتهم على العودة إلى ليبيا، وعليهم تحمل تبعات تلك العودة المؤلمة والمخيفة. التقارير الإعلامية تشير إلى أن ثلثي القوارب الواصلة إلى الشواطئ الأوروبية هذا الموسم قادمة من ليبيا وثلثها الآخر من تونس. ويبدو أن توقف الاقتتال في ليبيا مؤخراً شجع عصابات المهربين على العودة السريعة لاستئناف نشاطهم الإجرامي، وتعويض ما فقدوه من أرباح خلال العام الماضي. السلطات الإيطالية، سعياً لحصر انتشار الوباء الفيروسي، قامت بتأجير عبارات بحرية لنقل المسافرين لحجر المهاجرين صحياً، لمدة عشرة أيام، كي يتم التأكد من عدم وجود مصابين بينهم بالوباء. قرابة عشرة آلاف مهاجر استضافتهم تلك العبارات. وعقب الانتهاء من الحجر الصحي، ستتولى حافلات نقل أولئك المهاجرين إلى مراكز إقامة شيدت لهذا الغرض، في عدة مناطق من إيطاليا. خلال تلك الرحلة سوف يتمكن المهاجرون من إلقاء نظرة أولى وأخيرة على شوارع لامبيدوزا، وهي تستعد لاستقبال السياح من جميع بلدان العالم. وأول دروس تجربة الهجرة التي يتعلمها المهاجرون، بعد نجاتهم من الغرق ووصولهم سالمين، تبدأ من تلك الجزيرة، وهي أن الجنة الأوروبية الموعودة قد تنقلب إلى فردوس مفقود، وأن الحلم بعيش كريم في بلد أوروبي قد يتحول فجأة إلى كابوس مرعب، لا ينتهي حتى بإعادة ترحيلهم إلى حيث فروا هاربين.
الحكومة الإيطالية كعادتها سارعت بالتوسل إلى الدول الأوروبية الأخرى على المساعدة بموافقتهم على مساهمتهم في حل الأزمة بقبول نسبة من المهاجرين الواصلين. وطلبت من رئاسة الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تونس، بشكل خاص، من خلال إقامة مشروعات تقدم فرص عمل للشباب، تقنعهم بالبقاء في بلدهم. وعمدة مدينة لامبيدوزا يكاد يتميز غيظاً، لأن وسائل الإعلام الإيطالية والعالمية لا تكف عن نشر التقارير حول وصول المهاجرين إلى الجزيرة، ما يعني توقف السياح عن زيارتها، وبالتالي خسارة موسم سياحي آخر. وعاد الشعبويون بقيادة سالفيني إلى البروز معتلين ظهر الموجة الجديدة من المهاجرين. ويبدو، كما أوضحت تجارب السنوات الماضية، أن إشكالية الهجرة إلى أوروبا لن تعرف توقفاً، بل إنها بمرور الوقت تحولت إلى سلاح فتاك تستخدمه بعض الدول لخدمة أغراضها السياسية أو لوضع ضغوط على غيرها من الدول. التقارير الإخبارية هذا الأسبوع تحدثت عن قيام حكومة روسيا البيضاء باستخدام شركة طيران محلية لجلب مهاجرين من العراق وسوريا، وفتح الطريق أمامهم للعبور إلى جمهورية ليتوانيا، لأن الأخيرة تحوّلت إلى مقر للمعارضين لنظام روسيا البيضاء.
وقبلها، قامت تركيا بفتح الحدود أمام آلاف المهاجرين السوريين وغيرهم لتغرق بهم اليونان وكل أوروبا، ولم تعد إلى إقفالها إلا بعد حصولها على مبتغاها من الاتحاد الأوروبي.