مواجهة الطمس المتعمد*
د. علي عبد اللطيف حميدة
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
تقديم
يعيد د. علي عبد اللطيف حميدة في كتابه الصادر منذ أشهر “الإبادة في ليبيا: شَرُّ التاريخ الاستعماري المسكوت عنه Genocide in Libya: Shar, a hidden colonial history” بناء جريمة المعتقلات الجماعية التي اقترفها الاستعمار الإيطالي الفاشي على الأرض الليبية (وهي أول معتقلات من نوعها في التاريخ المعاصر)، من خلال التنقيب في القدر الضئيل جدا الذي أتيح له النظر فيه من المحفوظات الإيطالية، وما تيسر الحصول عليه من قبل المحفوظات الليبية، ولكن من خلال اللجوء شبه الكامل إلى الذاكرة الشعبية المسجلة والمتحركة في الأشعار والروايات الشعبيه، ومقابلاته مع بعض الناجين، رجالا ونساء، ممن خبروا وعانوا صنوف العذابات والمحن في هذه المعتقلات، فكانوا ضحايا وشهودا، حيث تحيي ذاكرتهم الوقائع الدفينة طازجة إلى حد أن بعضهم كانوا يبكون وهم يروون معاناتهم بعد ما يقارب خمسا وسبعين سنة بعد وقوعها.
يشكل كتاب د. حميدة هذا فتحا بحثيا، ليس في ما يخص المعتقلات الجماعية لإيطاليا الفاشية كوسيلة إبادة على الأرض الليبية، فقط، وإنما هو فتح مهم في ميدان دراسة أعمال الإبادة المقارنة، ما يوفر فهما أوسع وأعمق للمنظورات الفاشية عبر التاريخ والعالم.
في هذا المقتطف من الكتاب أمثلة دالة على حجم المعاناة وعمقها.
(المترجم)
حكى لي ناجٍ قصة مؤثرة عن أمٍ لطفلين عوقبت بالجلد ثم قيدت إلى سارية رئيسية في معتقل العقيلة طوال اليوم. في الليل طلبت من رجل أن يساعدها. اقترب منها الرجل فوجد الطفلين معها، طفل في مرحلة الحبو يتعلق بجسدها ورضيع كانت تضمه إلى صدرها، رغم أنها كانت مقيدة إلى السارية. طلبت من الرجل أن يضغط على ثديها كي يتمكن الرضيع من الرضاعة، ففعل ذلك. وفي وضع مختلف كان رجل مسن مستلقيا في ظل خيمة، وعلى ذراعه يدب صف من النمل. عندما حاول صبي عابر إبعاد النمل، منعه الرجل المسن. لاحقا أدرك الصبي أن العجوز أراد الحفاظ على النمل لأنه كان يحمل الحبوب من مخزن المؤونة بالمعتقل.
هذه ليست حكايات مسلية، وإنما هي قصص أناس كانوا يواجهون الموت.
الناجون من المعتقلات الجماعية تحدثوا عن وقائع أخرى أسهمت في إيضاحهم مسألة أعداد الموتى المرتفعة في المعتقلات الأربعة الكبيرة**. الجيش الإيطالي لم يزود المعتقلين بالأدوية والملابس. آلاف الأشخاص كانوا يملكون فقط قطعتين من اللباس، ولم تكن لديهم أحذية، ولم يستحموا على مدى ثلاث سنوات، ما جعل البراغيث والعدوى سارية بين المعتقلين وأصبحوا عرضة لأمراض من مثل الجدري والتيفوس والعمى. كان عمْر محمد عصمان الشامي إحدى عشرة سنة حين اعتقل مع أمه في معتقل العقيلة سيء الصيت. بقي بقميصه الذي على ظهره مدة ثلاث سنوات وبدون حذاء. حكى أنه بسبب انعدام وجود الصابون حينها لغرض الاستحمام غزا القمل والبق ملابسهم، ما حدا بأمه بأمه إلى نزع قميصه المهتريء عنه وتغليته في الماء لقتل القمل والبق.
الحاج محمد إدريس الشلماني (معتقل المقرون) قال “ما حدث لنا لم يحدث لأي شخص، يا عزيزي”. هارون عبد العزيز مصطفى (معتقل الأبيار) قال “استولى الإيطاليون على ممتلكاتنا وحيواناتنا، وجعلونا في فقر مدقع”. ويتذكر عطية اللافي (معتقل العقيلة) “كنا نموت بسبب الشر*** والمرض. كانوا يريدون موتنا. عديدون ماتوا نتيجة الهم والغم”. وتقول الحاجة باهية حمد العبيدي (معتقل البريقة) “لقد أرادوا محونا، إنهاءنا. قبيلتنا، العبيدات، انخفض عددها كثيرا بسبب الحرب ومعتقل البريقة”، وتضيف “لشدة معاناتنا كنا نتمنى الموت” وإذا ما قيض لها أن تجد الضابط الإيطالي باريلا، آمر المعتقل، أمامها فستضربه بالعصى. ثم أضافت بعفوية “الحمد لله عادت [إلينا] ليبيا من جديد”. هذا التاريخ الجماعي الحي هو ما اكتشفته بعد شروعي في بحثي الميداني، مسافرا عبر البلاد، ومقابلا العديد من الناجين. كان الأمر كما لو أن هذه الأصوات التي لم تكن مسموعة تتحدى [الرواية] الاستعمارية الإيطالية وسلطات ليبيا ما بعد الاستعمار 1951 وتجادلهم وجها لوجه.
* العنوان من وضع المترجم.
** هي معتقلات: العقيلة، سلوق، سيدي أحمد مقرون، البريقة.
*** تعني لفظة شر في اللهجة الليبية، إضافة إلى معناها الأصلي الذي يضعها ضد الخير، المجاعة.