من يحرق المراكب؟
محمد العجمي
أحرقنا مراكبنا
وعلقنا كواكبنا
على الأسوار
نحن الواقفين على خطوط النار!
خلال الاجتياح الإسرائيلي كتب الشاعر محمود درويش هذه الأبيات في قصيدته “بيروت” مشجعاً مقاتلي المقاومة على القتال ضد الاحتلال.
مرت مياه كثيرة تحت الجسر، اختلف فيها فكر درويش، ولربما رفع “درويش الثمانينات” السلاح ضد درويش في سنواته الأخيرة، وفي احتمال آخر قد يقنع الشاعر نفسه القديمة بأن هذه مسارات الحياة والسياسة وأن كل القرارات صحيحة.
لست هنا لمنازلة الدرويش المحمود ومحاكمته، فالاسم وحده “درويش” يخيف ابن الثقافة الصوفية التي لا تشجع ثقافة النقد والانتقاد كثيراً، بل تمجد المشايخ غير القابلين للنقاش، لكن لأناقش فكرة إحراق المراكب التي أثار بها ذاكرة المقاومة ضد الاحتلال.
تأتي الفكرة من قصة قديمة حول طارق بن زياد، يختلف كثيرون حول دقتها، وتقول إن قائد جيش المسلمين في الأندلس أحرق المراكب التي أتت بهم وقال لهم: ” البحر من ورائكم والعدو من أمامكم”، لتنعدم الخيارات أمام الجند ويستبسلوا في قتالهم ضد عدوهم.
في الثمانينات استحضر الشاعر الفكرة ذاتها للبقاء في الخنادق ضد الاحتلال ليعلن الواقفون على خطوط النار أن:
لن تنرك الخندق
حتى يمرّ الليل
بيروت للمطلق
وعيوننا للرمل
أما اختلاف الفكرة خلال الأعوام التي تليها بما يزيد قليلاً عن عَقدٍ من الزمن، فذلك أمرٌ لا يحاسَب عليه درويش كشخص أو شاعر، بل تحاسب عليه النخبة ذلتها التي حاربت قبلاً خلال شبابها.
التساؤل والحكم هنا لا يصب في دراسة الحالة الفلسطينية، بل في فكرة إعلان استحالة الحل إلا بالقتال، وإحراق مراكب الساعين نحو العودة أو البحث عن حل آخر.
كان سلاح التخوين حاضراً تجاه من رفضوا حرق المراكب في كل مكان من الأندلس إلى بيروت وصولا إلى بنغازي وطرابلس، لا تختلف في ذلك سواحل المتوسط عن بعضها شيئاً.
ولم يحاكم بعض حارقي المراكب الماضي ليعرفوا ما إذا كانوا قد خوّنوا صديقاً أو “صادقاً” في موقفه بهتانا، بل أدمنوا صم الآذان وغمّ العيون عن الماضي، ووضع الغطاء على أعين الخيل للسير إلى أمام يختارونه هم فقط.
هذا الخيار الأبدي بين موت مختارٍ وموت محكم صار يتسلل من السياسة إلى جميع نواحي الحياة، حتى أضحى أسلوب حياة لمواطن تنعدم أمامه الخيارات أصلا بسبب الحكم الأمني الخانق لحياته المنهكة اقتصادياً بسوء الإدارة والحكم غير الرشيد.
وبعدما أنهك هذا الأسلوب في القرار حتى منتهجيه، صار البحث عن حل لأزمة استفحلت بالخيارات العدمية ذاتها، فيكون التنازل مفتوحاً لأقصى مراحله، والانقلاب على وضع سابق طبيعة عادية.
تصبح هنا العقلانية محاربة في جميع المراحل، فيعود العقلاني للبحث عمن يحرق المراكب خوفا من تنازل مفرط، وتنقلب الأدوار في سبيل الوصول إلى الحل.
وحده المتمرد يقف متفرجاً، لا يهتم بمركب يحترق، ولا يقاتل بحثاً عن مهرب، يرمي خلف ظهره توجهات الجمع، بحثاً عن مكانه الذي لا يُجبَر على التوجه إليه أو البقاء فيه.
ويكون السؤال المطلق هل البحث عن البناء خطوة فخطوة صعبٌ على الفهم أم يعترضه التسرع الذي قد يعتبره بعض المتريثين “انتهازية سياسية”، أو بحثا عن ضائع في غير محله توهاناً من الباحثين.
بالطبع لا أقصد نقداً كاملاً لتجربة التيار المدني الليبي، وما حدث منذ 2012 إلى الآن، فقط كان التشابه جزءاً من كل.