من هم المعتصمون؟
أنيس فوزي
هل هم معلمون أم مدرسون؟ هل يدرّسون شيئًا جديدا أم قديما؟ هل هم مبدعون في مهنتهم أم يؤدونها بالشكل التقليدي فقط؟ هل يعون التغييرات التي تطرأ على العالم وعلى طلابهم أم أنهم يستمرون في تقديم نفس الأفكار القديمة؟
عدم وجود إجابات لهذا السؤال تجعل فكرة المساواة التي حملها اعتصام المعلمين ليس فيها شيء من العدل، وهذا ضد أي فكرة تعليمية محترمة.
فهُم كيان عام “فيه الزين والشين” وفيه الذكي وقليل البديهة وفيه الواعي والذي بلا وعي، وفيه الذي يخرّج الأطباء والمهندسين والذي يخرّج الدواعش والفاسدين، والذي يحصل على احترام طلابه والذي يُخيفهم، والقادر على إيصال المعلومة والذي لا يستطيع، وهم ليسوا كيانا واحدا ولن يكونوا يومًا كذلك، وإعطاء كل هؤلاء رواتب جيدة أو أن يتظاهر كل هؤلاء مع بعضهم -أصلاً- فهذا غير منطقي، ويعني أنك تريد أن تعطي الذي يستحق والذي لا يستحق كأنهم شخص واحد، ويقدمون ذات المردود.
من منظور الشفقة نحن جميعا بحاجة إلى الدعم، لأن دولنا ومجتمعاتنا وقوانينا ظالمة وتافهة من البداية وكل شيء فيها لا يسير بطريقة صحيحة، فبالتالي نحن مظلومون بائسون قدرنا العلميّ والثقافيّ سيء، فلا بأس أن تكون حالتنا الماديّة جيّدة وأن نطالب برواتب تحفظ كرامتنا. هذا لا شك فيه. لكن الحقيقة والأمانة والضمير يقول “قليل منّا من يستحق المزايا”. ولهذا أنصح المعلمين (((التركيز على موضوع العاطفة هذا، والابتعاد عن موضوع الاستحقاق))) وأن يرفعوا شعارا خفيفا بدلا من شعارات فضفاضة كلها شعر وإنشاء، لأن مناهج لا تدرّس التكنولوجيا والعلوم الحديثة وعلم الاجتماع الحديث والفلسفة وباقي التخصصات بدقة “ملموسة” و “محققة” تؤدي إلى نتيجة حقيقية، والتركيز على العمليّ أكثر من النظريّ، فهي مناهج باطلة ولا تنتج عقولا بل قطعانا، وتعطي شهادات لكنها لا تعطي عِلما، ومحدّثكم هذا درس وتخرج من مدارسكم الموقّرة التي تقول شيئا، ليجد واقعا يقول شيئا آخر تماما، وتعلَّم شعارات ومبادئ عندما طبّقها صار مغضوبا عليه، لأن منظومة شعوبنا لا تستقبل الحقيقة ولا تتعاطى مع الاجتهاد وتبغض الفهم والعقل بغضا شديدا، وأنتم أكرمكم الله متعهّدون لدى حكومات تفرض عليكم المناهج التي تخرّج أشخاصا لا يسألون كثيرا حول حياتهم وحقوقهم وامتيازاتهم وحدودهم وما لهم وما عليهم. ولذلك من -منظور الشفقة نفسه- سأجد نفسي مع الطلبة أيضًا في حقوقهم ومطالباتهم وإعطائهم مُنح ومزايا (وحقهم في أن يكون لديهم معلمين جيدين)، ومع أي فئة أخرى دون تفريق.
أما من منظرو الأحقية، فهم بحاجة إلى أن يرتبوا أنفسهم، وأن يتعبوا أكثر، ويباشروا في كتابة مناهجهم حتى يكونوا معلمين وليسوا مدرسين ملتزمين بتدريس مناهج صادرة من الدولة، كما أنهم مُطالبون بالتعرف على ما يَدرسه الطلاب في العالم الموازي الآخر، ولست قاسيا لو قلت إن كثيرا منهم بحاجة لمن يعلّمهم حتى. “وهذا ينطبق على كافة التخصصات الأخرى بلا استثناء” أولهم أنا كاتب هذا المقال.
ربّما كثير من المعلمين درّسوا معلومات متناقضة “مزوّرة” في التاريخ مثلا، بين فترة ما قبل وبعد الثورة، دون أن يخرج أحدهم في مظاهرة من أجل إنقاذ الحقيقة، أو أن يقول للطلاب أن الحاكم يحجب ويكذب على هواه، وكثير منكم يأتي إلى المدرسة كأنه مغصوب عليها، ويعامل الطلاب بشكل قاسٍ إضافة إلى عدم تقديمه شيئًا مهمًا في المقابل، وقِس واقعنا كله وفشلنا العلمي والأخلاقي على ما تعلمناه -وجهة نظر برضو- ولا تكن مغرورا زيادة عن اللزوم، و”حط شويّة لوم” على عاتقك، وطالِب بتغيير المناهج وتحديثها وتطويرها إضافة إلى مرتبك، فهذا شيء من المفترض أنه يعنيك وفي مصلحتك أيضًا، وكن صادقًا وشفافًا وطالب بطرد عديمي الكفاءة أو تعليهم من جديد، فعندما تتحدث عن حقوقك عليك أن تراعي حقوق البشر الذين تستلمونهم من الصفر ويخرجون يحملون أصفارا أيضًا، ثمّ أنصحك بالابتعاد عن مقارنة مرتبات المعلم الأوروبي بمرتبك، فذلك يعلّمهم شيئًا يجعلهم بالفعل ناجحين، وأنت تعلمهم شيئًا يجعلهم -واقعيًا- يعلّقون شهاداتهم في المطابخ، ومثلما تتغنّى بعشرة أو عشرين طالبا متفوقا تخرّج من تحت يديك، عليك أن تسأل لماذا هناك آلاف تخرّجوا على يديك مثلهم بغير هذه الكفاءة؟ ومثلما لا تريدنا أن نعامل المعلم المجتهد كالمعلّم الكسول، عليك أن تحددهم أنت أولا.. وأن تفصلهم عنك. وأن تفهم أن هناك طلابًا مجتهدين وكسولين أيضًا، وطلابا يحملون بديهة أكبر من الآخرين، وطلاب يحتاجون عناية خاصة وتوجيها جادا إذا ما فشلوا في شيء ونجحوا في آخر، وأن تعي أن نجاحك ليس في عشرة أو مائة شخص، بل فشلك هو في فشل آلاف الأشخاص.
هناك الكثير يُقال عند مطالبكم المشروعة هذه، أتمنى لكم التوفيق من كل قلبي، لكن والله إن “بعض العنطزة مستفزّة” وبعض الشعارات تحتاج إلى إعادة نظر، خصوصا أن بيانكم المحترم الأول كانت فيه الكثير من الأخطاء اللغوية الكارثيّة، هذه الأخطاء أقع فيها أنا أو غيري، لكن لا يقع فيها مجموعة من المعلمين الذين وقّعوا عليها كواجهة لمطالبهم.
أخيرا، المسؤولون الذين يهملون مطالبكم اليوم خرجوا من مدارسكم أيضًا وتعلموا تحت إشرافكم، فحاولوا أن تعتنوا بالمسؤولين الجدد الذين سيتخرجون من تحت أيديكم، وعلّموهم أشياء تجعلهم أشخاصا يتمتعون بالأمانة والمسؤولية والثقافة، وكونوا مُلهمين حتى يكون الرئيس القادم الذي يجلس أمامكم على مقاعد الدراسة شخصًا ملهما ويعتني بمطالبكم ويعطيكم حقكم كما هو بلا زيادة أو نقصان، وحتى لا يُظلم المعلم في المستقبل مثلما ظلم نفسه في الماضي، وهذا كله بالطبع إذا كانت القضية التي نناقشها الآن تخص فكرة “المعلم” ولا تخص الأشخاص المعتصمين بعينهم فقط، فتلك حكاية الأخرى.