من موسوليني إلى أردوغان: لا دين للفاشية ولا وطن
سالم العوكلي
حين ينتج التاريخ نسخة شبيهة بعد قرن أو أكثر ليس مصادفة، لكن لأن المعطيات التي أنتجته مرتين متشابهة: المعطيات التاريخية والجغرافية والاجتماعية. فقبل قرن غزت إيطاليا ليبيا معلنة إياها شاطئها الرابع، ولم تكن تستطيع التمكن منها لو لم يساندها عملاء يعرفون الأرض وسكانها جيدا.
التقيت العام 2015 بشيخ برعصي مسن في قرية الفائدية وحين كان الحديث يدور حول ما يحدث في ليبيا آنذاك؛ ومعظمه متشائم، قال الشيخ الذي عاصر حقبة الإيطاليين في نهايتها والحرب العالمية الثانية والاستقلال وما بعده، قال بهدوء متفائل: ما تخافوش .. هذا وطن يخربوه هله ويصلحوه هله. ولأن لا أحد فهم هذه العبارة التي تحمل تناقضا في داخلها استأنف ما مفاده: أن الطليان لم يتمكنوا من ليبيا إلا عبر الليبيين الذين كانوا يركضون أمامهم أدلة وداعمين في كل مكان حلّوا فيه، والذين شكلوا مليشيات تقاتل مع الطليان في الخطوط الأولى في معظم المعارك، وحين انتهى وقت العملاء كما لا بد أن ينتهي في أي زمان ومكان جاء المصلحون ليبنوا الدولة. أخبرني أبي الذي كان صبيا راشدا في معتقل البريقة أن من كانوا يسومونهم شر العذاب في المعتقل، ويضربون النساء، ويسرقون حصتهم القليلة من الطعام، هم ليبيون يتحدثون جميع اللهجات الليبية، اختاروا في لحظة زهو أن يكونوا في طرف الغازي ضد أبناء جلدتهم.
الآن يعيد التاريخ نسخة مشابهة لأن الظروف نفسها تتكرر، فتركيا كانت تحكم قبضتها على ليبيا وتديرها وسلّمتْها وفق اتفاقية قذرة لآلة الدمار الإيطالية، وانسحبت بجنودها الذين كانوا يجمعون الخراج من فقراء ليبيا، لتدافع عن حدودها أمام زحف قوى الحلفاء، وهيأت الفوضى والانقسامات والعملاء المناخ المناسب لأن تسيطر إيطاليا على شواطئ ليبيا خلال سنة واحدة، لكن المقاومة استمرت بعد ذلك لعشرين سنة في الدواخل حيث كان مركزها الجبل الأخضر، ما أدى في النهاية لوضع معظم سكان هذه المنطقة الحاضنة للمقاومة في معتقلات لا تقل ضراوة وقسوة عن معتقلات النازية، ويرجع استمرار المقاومة في هذه المنطقة لأسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية، فهذه المنطقة كانت برضاها تقبع تحت نفوذ الحركة السنوسية منذ قرن تقريبا، وهذا الولاء الروحي من قبل القبائل والمدن (في الشرق خصوصا) قلص من النفوذ التركي في المنطقة، فاضطرت تركيا للتعامل مع السنوسيين كأمر واقع وكوسيلة اتصال مع هذه القبائل الموالية للسنوسيين الذين كانوا يدعمون مقاومة القوى الغازية في الشمال الأفريقي ومصر، واجتماع القبائل كلها (عدا العملاء) وراء هذه القيادة الروحية جعل المقاومة تستمر إضافة إلى طبيعة الجبل الأخضر كبيئة مناسبة لمثل هذه الحرب.
في تلك الفترة كان المتطلينون من النخبة الليبية المتعلمة؛ الذين يعملون في صحف في طرابلس وبنغازي، ينعتون المقاومة الليبية المسماة شعبيا (المحافظية) بمصطلحات فاشية مثل (المخربون) أو (المتمردون) أو (البدو الهمج)، رغم أنهم شكلوا جيشا وطنيا وفق مقاييس الجيوش في تلك الفترة من حيث التجنيد والتدريب والتخطيط والعمل اللوجستي، يحارب تحت حاضنة اجتماعية داعمة وقيادة سياسية متمثلة في شخص السيد إدريس السنوسي. أما هؤلاء الذين يحملون أعلام تركيا ويحملون المرتزقة السوريين على أكتافهم هم سلالة أولئك الذين حملوا أعلام إيطاليا الفاشية ونكلوا بأبناء جلدتهم حين جندوا مع الجيش الفاشي الغازي، والتاريخ دائما يعيد نفسه طالما يجد من يستجيبون لشروطه من المستعدين للخيانة في أول فرصة تتاح.
حين حاصرت جيوش الطليان المقاومة الليبية عبر وضع السكان في معتقلات، وقفل الحدود المصرية التي كانت شريان حياة لهذه المقاومة، استطاعت أن تقضي عليها بعد أن قبضت على زعيمها الروحي المختار، لكن العمل السياسي خارج ليبيا لم يتوقف، وراهن السيد إدريس على الانضمام للحلفاء في حربهم ضد المحور بزعامة ألمانيا النازية، ليستفيد من هذه الحرب العالمية الثانية، وتشكل الجيش السنوسي في المنفى من قبل مهاجرين من جميع أنحاء ليبيا، حارب مع الإنجليز ضد الزحف الألماني، ودفع الليبيون المئات من الضحايا في معركة العلمين الشهيرة في حرب يدركون أن لهم ناقة فيها وجمل، وهي الوسيلة الوحيدة لطرد الفاشيين الذين تمكنوا من ليبيا.
ومثلما برر موسوليني احتلاله وجرائمه في ليبيا بالعودة إلى أمجاد الإمبراطورية الرومانية، يفعل الآن أردوغان الذي يعود لغزو ليبيا بحجة عودة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ومثلما أعلن الفاشيون أن ليبيا شاطئ إيطاليا الرابع يعلن أردوغان الشاطئ الليبي كشاطئ عثماني، ومثلما جلبت إيطاليا مرتزقة من الصومال وأريتريا إلى ليبيا تجلب تركيا المرتزقة لقتل الليبيين، ومثلما وجد الفاشيون ليبيين من النخبة والدهماء من يساعدونهم ويقاتلون معهم، يجد أردوغان العملاء أنفسهم لتحقيق أهدافه الفاشية في ليبيا، وهؤلاء العملاء يتشكلون من جميع أنحاء ليبيا مثلما كانوا في الماضي، كما تشكل الجيش السنوسي من جميع أنحاء ليبيا.
ومثلما استقبل الليبيون هنا جيوش الحلفاء بالزغاريد والأراجيز استقبلهم الشعب الإيطالي بالورود، لأن الفاشية حركة إرهابية ضد الإنسانية برمتها، لا دين لها ولا وطن، وهذه الفاشية الجديدة التي يقودها أردوغان في المنطقة مصيرها أن تنتهي النهاية نفسها لأنه لم يحدث أن خسرت مقاومة وطنية المعركة مهما طالت.
لم تعد الحرب الآن في ليبيا حربا أهلية، أو حربا على الإرهاب المحلي الذي تمكن من مفاصل الدولة في العاصمة، لكنها حرب مقاومة ليبية تتشكل من جميع مناطقها ضد غزو تركي فاشي يحمل شعارات الفاشية الإيطالية نفسها، متحالف كما فعل الطليان مع مجموعات محلية، ومن يريد أن يتأكد عليه أن يقارن بين خطابات موسوليني في العشرية الثالثة من القرن العشرين بشأن مستعمرته ليبيا وخطابات أردوغان الآن بشأن مستعمرته ليبيا، نفس اللهجة المتعالية ونفس العبارات تقريبا ونفس الوهم. وأردوغان الفائز بجائزة القذافي للسلام يدعي أنه يحمي الديمقراطية بدعمه جماعات إرهابية في طرابلس، وبجلبه لمجموعات التركمان المسلحة وبقايا داعش من شمال شرق سوريا، كان بعكس العالم كله يدعم نظام القذافي طيلة الشهور الأولى من انتفاضة فبراير، ما أدى ببعض الميادين الثائرة التي كانت تحمل العلم الفرنسي لحرق العلم التركي المنحاز للنظام المستبد، وأردوغان المتشدق بالديمقراطية مثلما كان يفعل القذافي يتحالف الآن مع الحزب القومي اليميني التركي ذي الروح الفاشية، ويضع في السجون عشرات الآلاف من نخبة الدولة التركية العميقة، من عسكريين وأكاديميين ومحامين وقضاة وصحفيين وزعماء وأعضاء أحزاب وطنية معارضة وأكراد يعلنون مخاوفهم من المد القومي اليميني المتطرف.
وحين أقول التاريخ يظهر نسخة أخرى مشابهة لما حدث قبل أكثر من قرن، فإن التحالفات من قبل الطرفين ستكون مشابهة، وفي هذه الحالة لن يكون التفريق بين داعمي الطرفين سوى اختلاف جوهري مثلما كان قبل قرن أو أكثر، حيث كان الصراع بين النازية العنصرية والفاشية من جانب وبين قوى الحلفاء المدافعة عن الديمقراطية والقيم الإنسانية من جانب آخر، وبالتالي فإن فاشية أردوغان ستعيد الشيء نفسه، وهذا الانزعاج الأوروبي من توجهاته الفاشية داخل تركيا وخارجها لن يبقى مجرد انزعاج . وإذا عاد بك التاريخ القاسي إلى ظروف مشابهة وما عدت تملك سوى خيار التحالف مع قوى دولية عليك دائما أن تختار الوقوف في جانب من يقف ضد الفاشية كما حصل قبل قرن حين حارب الجيش السنوسي مع الحلفاء ضد النازية والفاشية.
حين طُرد الطليان، واستلم الجيش الإنجليزي مقاليد المجتمع المتهالك تحت ما سمي الإدارة البريطانية، جاء وقت المصلحين ــ بعد أن اختفى العملاء أو نزحوا خارج الوطن الذي خانوه ــ ليسعوا إلى استقلال هذه الأرض، وخاض الوطنيون صراعا سياسيا شرسا حتى تحقق هذا الحلم، لكن الميراث بعد حقبة من الفاشية كان ثقيلا ولحظتها تدخلت حكمة المؤسس إدريس الذي رأى أن الدولة لن تقوم إلا بعد مصالحة وطنية شاملة فرفع شعار (حتحات على ما فات) وتحت رعايته وقعت وثائق المصالحة في كل مكان، وكان ما فعله إدريس في ذلك الوقت يشبه ما فعله مانديلا في جنوب أفريقيا مع اختلاف الظروف واللحظة التاريخية ووسائل الترويج الإعلامي، والاختلاف يكمن في أن ما طرحه مانديلا كان تحت شعار (الحقيقة والمصالحة) التي تتطلب من الجاني أن يعترف ويقر بالضرر الذي تسبب فيه جراء تحالفه مع فاشية جنوب أفريقيا، ولم تكن (الحقيقة) شرطا في المصالحة الليبية التي جعلت (ما فات) في طي النسيان، حتى وإن أكدت المواثيق على أن جبر الضرر سيتم بعد بناء الدولة ومؤسساتها القضائية، إلا أن التسامح كان هو الخيار في الأخير، وحين بنيت الدولة اندمج فيها الليبيون ونسوا آلامهم وثاراتهم . والملك إدريس اختار أول رئيس وزراء شخصا تعلم في المدارس الإيطالية وعمل معهم في خطوة شجاعة كانت تقول إن ليبيا الآن تختلف وإن ما فات فات.
البعض ما زال يعتبر أن هذا الإجراء أحد أخطاء الملك حيث العقاب يعتبر فضيلة إنسانية من شأنها أن تكون رادعا في المستقبل، وأنه لو عوقب عملاء الفاشية في ذلك الوقت لما تكرر السيناريو الذي يتكرر الآن مع فاشية أردوغان ومطالبته بحقوق امبراطوريته التاريخية في ليبيا، لكني ما زلت اعتبر التسامح هو القيمة العليا؛ التي لولاها لما بنيت تلك الدولة المعجزة في أقل من عقدين، قبل أن تستلمها فاشية محلية أخرى انتهى زعيمها كما انتهى موسوليني بالضبط، وكما سينتهي زعيمها الإقليمي الآن أردوغان يوما ما، لأن الفاشية، كما ذكرت، لا دين لها ولا وطن، ولا نفس لها لتعيش طويلا لأنها ضد الشرط الإنساني للعيش.
سيبتلع النسيان من يخربون ليبيا من أهلها، وسيأتي دور من يصلح ليبيا من أهلها وفق حكمة ذاك الشيخ الذي عاش أشد مراحل ليبيا التاريخية قسوة ويأسا وعاش حتى يخرج بهذه الحكمة.