من كهوف الجبل الأخضر إلى شركة الأجنحة للطيران
سالم العوكلي
شهر مارس 1996 كنت برفقة أصدقاء في رحلة شاي مسائية على تلة تشرف على البحر المقابل لقرية كرسة، كان الجو ربيعيا والبحر هادئا، ولم يعكر صفو تلك الأمسية سوى حركة غير اعتيادية على الطريق الواصل بين درنة وقرية كرسة، سيارات شرطة تطلق عواءها متجهة صوب كرسة وسيارات إسعاف تنطلق مسرعة صوب درنة. قال أحد الأصدقاء يبدو أن البحر فيه كلب، ولملمنا أشياءنا وغادرنا، وبعدها عرفنا الحكاية. جماعة دينية مسلحة كانت تلوذ بوادي الطير جنوب كرسة قامت بذبح رئيس البحث الجنائي وضابط وجندي معه، ونجا أحد المشاركين وهو صديق من قريتي كنا نتدرب معا في نادي عين جالوت الرياضي بقرية القيقب، وحين كنا نركض مسافة على الطريق العام كان هو أسرعنا ويسبقنا بوقت إلى الملعب الذي نجري به تدريبات كرة القدم، ويبدو أن تلك التمارين والسرعة هي التي أنقذته حيث ركض عبر الغابة جنوبا حتى وصل الطريق العام بين درنة وقرية عين مارة ، حدثني أنه حين ثار الحديث عن مجموعة إرهابية تتمركز بتلك المنطقة تواصل رئيس البحث مع الجهات المختصة كي يحل المشكلة بطريقته السلمية، وذهب مع بعض الضباط والجنود كي يتفاوض معهم تحت فكرة أنهم مجموعة صبيان مغرر بهم وخائفين ويجب طمأنتهم والعودة بهم إلى بيوتهم، لكن تلك المجموعة كانت قد شربت فكرا إرهابيا بعد أن جاء إرهابي من أفغانستان عن طريق السودان إلى الجبل الأخضر سيصبح من أهم قادة المرحلة الانتقالية في ليبيا بعد انتقال السلطة إلى طرابلس عبر المؤتمر الوطني وحكومة الكيب ومن تلاها، وأصبحت هذا المجموعة المسماة “الجماعة الليبية المقاتلة” ترى في كل من يعمل في الدولة طاغوتا يجب ذبحه.
ومن تلك الحادثة بدأت أحداث درنة صيف 1996 والتي حوصرت وقتها المدينة بالكامل عن طريق كتائب جاءت من الغرب الليبي وقد قدر عدد أفرادها بـ20 ألف ، حوصرت المدينة لمدة 10 أيام لا يدخل أو يخرج منها أحد، باعتبار أن ثمة معلومات عن خلايا أخرى إرهابية داخل المدينة، ثم فتشت المدينة بيتا بيتا ودولابا دولابا، بما فيها بيتي ، وكان التفتيش مصحوبا بإطلاق الرصاص في الهواء. كانت تحدث حوارات بيني وبين أصدقاء، بعضهم من شدة كرهه للنظام والقذافي كان يتعاطف مع هؤلاء الشباب الذين يعكرون مزاج القذافي، وكان وقتها رأيي مختلفا، وقد كان رأيي وقتها: أني لو خيرت بين هؤلاء والقذافي لاخترت القذافي. وحين كتبت قصيدتي “درنة صيف 96” اعتبرتهما النظام وهؤلاء الإرهابيين وجهان لعملة واحدة ، غير أن رأيي الحاد والذي ما زلت أتبناه حتى الآن إذا ما وجدت نفسي أمام هذين الخيارين الصعبين، كان منطلقا من فهمي لكارثة أن يحكم البلد أو أي بلد جماعة تستخدم الدين للوصول إلى السلطة أو تستخدمها في الدين، كما كان ناتجا عن متابعتي لما حدث في الجزائر في عشريتها السوداء التي كانت وقتها تخرج منها، حيث تسبب التيار الديني المسيس الذي ربح الانتخابات في ساعة غفلة وبعد أن تدخل الجيش لينقذ الجزائر من كارثة ، تسبب هذا التيار في مقتل ربع مليون شخص في 10 سنوات ، ربع ما تسببت فيه حرب الجزائريين مع المحتل الفرنسي لأكثر من قرن، واغتيال المئات من المثقفين والفنانين والشعراء.
بعد ثورة فبراير وخروج مدن الشرق عن سيطرة النظام، كان ما تبقى من هذه الجماعات ينظم نفسه منذ البداية وهم من حولوا الانتفاضة السلمية منذ الأيام الأولى إلى ثورة مسلحة لأنهم لا يجيدون سوى استخدام السلاح، بعد تلك الانتفاضة بشهرين عثر على مقبرة قرب قرية أم الرزم (شرق درنة 60 كم) لمن قتل من هؤلاء الجماعات الإرهابية في مواجهتهم مع الأجهزة الأمنية والقوات المختصة في الأودية المحيطة بدرنة وبعضهم قتل في شوارع درنة، وأذكر أني دعيت بشكل شخصي لإحياء تكريم لهؤلاء المقتولين يقام في فندق اللؤلؤة ومن ضمنه أمسية شعرية، فرفضت بالطبع وحصلت حوارات في مقهى النجمة مع أصدقاء أثق فيهم تنطلق من فكرتي القديمة عن الخيار الصعب، وحين ألح أحد الأشخاص واصفا هذه المجموعة بالشهداء الذين قتلهم نظام القذافي، انفعلت وقلت له اعتبر الأمر شخصيا، فهؤلاء قتلوا 7 شبان من أبناء عمومتي غدرا ولذلك لن أحضر تكريمهم.
وهذه هي الحكاية، جهاز الأمن المركزي القادم من طرابلس والذي أدار الأمن في مدينة درنة فترة الأحداث حتى قضي على هذه الجماعة، قرر أخذ مجموعة طلاب من ثانوية الشرطة للتدريب الميداني، وذهبوا بهم إلى واد اسمه (بالضحاك) الواقع في منطقة (ظهر الحمر) جنوب درنة، وطلبوا منهم أن يعبروا الوادي إلى ضفته الأخرى ثم يعودون، وكانوا عزلا يرتدون أحذية وملابس رياضية فقط، ونزلوا الوادي لكنهم لم يعودوا أبدا، حيث كانت المجموعة التي ذبحت الضباط في وادي الطير قد انتقلت إلى هذا الوادي وحين قبضوا على الشبان ذبحوهم، وكان أمير تلك المجموعة الذي أصدر الأمر هو عبدالحكيم بالحاج، المكنى وقتها (عبدالله الصادق) وكان قد عاد من السودان بعد عمله الإرهابي في أفغانستان لتنظيم الجماعة الليبية المقاتلة في درنة، وهو من استقطب هؤلاء الشباب، وهو من أصدر أمر ذبح الضباط وفتيان ثانوية الشرطة العزل، والغريب أن بالحاج يشكو من معاملة النظام له في السجن رغم أن النظام أعفى عنه بينما هو ذبح فورا كل من وقعوا بين يديه ممن لا يمتّون للنظام بصلة، بينما النظام أعفى عنه وأخرجه من السجن ويداه ملطختان بدماء الأبرياء في الوقت الذي قتل فيه النظام مثقفا وحقوقيا ونبيلا مثل منصور الكيخيا واحتفظ بجثمانه في الثلاجة لسنوات طويلة. ما زالت قبور أولئك الفتية الأبرياء في مدخل مقبرة القيقب في صف واحد أراهم كلما أشارك في جنازة هناك. إنهم مجموعة فتيان حلموا كغيرهم بدراسة جامعية وعائلات وبيوت، لكن فقر أسرهم هو ما جعلهم يختصرون الطريق نحو ثانوية الشرطة المدنية كي يساعدوا أسرهم على تكاليف الحياة.
الناجون من تلك الجماعات والذين استطاعوا الخروج خارج الحدود أو اختفوا إلى أن تمت عملية المراجعة مع النظام التي قادها من أعضاء جماعة الأخوان القرضاوي والصلابي، هؤلاء القتلة برزوا بعد فبراير كأبطال، وتسابقت عليهم وسائل الإعلام العالمية، وتحصلوا على تعويضات ضخمة (لم يتحصل سجناء الرأي من الطلاب والمثقفين والكتاب على أي تعويضات بعد فبراير) وتقلد بعضهم مناصب حساسة، مثل عبد الحكيم بالحاج (المستتاب أمام سيف الإسلام) الذي سير المؤتمر الوطني عبر كتلة الوفاء لدماء الشهداء التي كونها داخل المؤتمر بالمال والابتزاز رغم أن حزبه الإسلامي لم يتحصل على أي مقعد في الانتخابات، وأصبح خلال فترة قصيرة مليارديرا صاحب شركة طيران خاصة، وما زلت لا أعرفه سوى عبدالله الصادق الذي ذبح الضباط في وادي الطير و7 فتيان من قريتي.
ومثلما عبرت يوما عن قلقي من هؤلاء ما زلت مستمرا وهم يتحكمون في مفاصل الدولة الليبية في العاصمة، أعبر عن رأيي الآن بصراحة وأقف مع الجيش أو أي قوة تجهض مشروعهم، فمرارة العشرية السوداء في الجزائر ما زالت تحت اللسان، ومرارة ما فعلوه من ذبح واغتيالات ومجازر في بنغازي واجدابيا ودرنة ما زالت طازجة، ولولا تحرير الجيش للمنطقة التي أسكن بها لما كنت حيا أكتب هذه السطور، لأني كنت أدرك أنهم فقط مشغولين في حربهم مع الجيش ولو انتصروا فسيأتي الدور على الكتاب والمثقفين والفنانين مثلما حدث في الجزائر وحدث في بنغازي ودرنة وطرابلس قبل أن يبدأ الجيش في حشد قوته ضدهم. معظم أصدقائي من الكتاب والكاتبات في طرابلس يعيشون الآن في المنافي بعد استحالة وجودهم تحت مظلة الميليشيات التي كانت تخطف وتقتل كل من ينتقده، هم آمنون في المنافي لكني أخاف على من لم يستطع الخروج وله وجهة نظر مختلفة، وأعرف أن معظمهم صامتون لكن مثل هذه الجماعات حين تتفرغ لتمشيط محيطها وتفرغ من محاربة الجيش ستعود لتفلي طرابلس من أي نبض ثقافي كما فعلت في بنغازي ودرنة. أخاف على طرابلس وأصدقائي فيها لأني رأيت بعيني كيف يستقبل هؤلاء القتلة في قنوات الإخوان كأبطال وكيف تحكموا في مفاصل الدولة، وأعرف صواريخهم وقذائفهم التي كانت تحوم فوق بيوت طرابلس حين كان الجيش بعيدا عنها بأكثر من 1000 ميل. أما الحديث عن حكومة معترف بها دوليا أو مجلس دولة فكله وهم، لأن من يحمل السلاح هو المسيطر فعليا، وأن هذه الأجسام تلتقي الآن مصالحها مع مصالح هذه المجموعات الإجرامية، وهي نفسها عرضة للتصفية حين يبتعد العدو الموحد بالنسبة لهم ويبدأ الصراع على النفوذ والمصالح والمال. لن تخدعنا بدلات ولا ربطات عنق السياسيين ولا كلامهم الدبلوماسي المعسول وهم يجوبون الفنادق في الدول الحليفة للإسلام السياسي دفاعا عن هذه الجماعات (الإجرامية منها والمؤدلجة) فمن يسيطر على طرابلس هو الإسلام السياسي الممثل بجماعة الإخوان، ومن يعمل في ظلهم هم في الواقع قتلة عبد الفتاح يونس وسلوى بوقعيقيص وعبد السلام المسماري ومفتاح بوزيد وانتصار الحصايري وفريحة البركاوي وأبناء الشرشاري وفتيان قريتي والقائمة تطول، وستطول أكثر إذا لم تُجرِد أي قوة محلية أو خارجية هؤلاء القتلة من السلاح وتضعهم خلف القضبان.