من القرية إلى المدينة “الجزء الأول”
218tv.net خاص
صالح شاب يعيش في إحدى قرى فزان النائية بفترة ستينيات القرن الماضي كان يذهب إلى المدرسة الواقعة خارج حدود قريته كل صباح مشياً على الأقدام رفقة عدد من الشباب و يعود ظهراً ليتناول سريعاً وجبته في إناء من طين .. الطعام الذي سبق طهوه في إناء من طين أيضا ، لينطلق سريعاً إلى المزرعة لمساعدة والده في السقاية وغرس الشجيرات والاهتمام بها ، في عمل شاق ومضني .
فالمزرعة في تلك الفترة ليست من أجل بيع المحصول بل من أجل أن تجد العائلة ما تأكله من طعام .. يعود صالح مع أبيه إلى البيت عند المغرب مشياً على الأقدام في مسافة تقدر بثلاثة كليومترات منهكاً من التعب والإرهاق ، لتوقد النار في زاوية من حجرتهم الطينية تسمى الطابونة ، يلتف حولها أفراد الأسرة للتدفئة و انتظار وجبة العشاء ، يوضع بقرب النار إناء به تمر جاف لتسخينه وليؤكل بعد العشاء كما جرت العادة في بعض قرى فزان .. لينام صالح الطالب والفلاح تاركاً واجباته الدراسية دون مراجعة من شدة التعب ، تضع الأم بعض الحطب من أجل إنارة الغرفة حاثة ابنها على المذاكرة وكتابة الواجب ومراجعة الدروس ولكن صالح يغرق في نوم عميق .
ليستيقظ فى الصباح الباكر متناولا ما بقي من وجبة العشاء وهذا هو الإفطار متجهاً لمدرسته مسرعاً حتى لا يتأخر على الطابور الصباحي . يدخل الفصل ويجلس على المقعد ويضع الكتاب والكراسة على الطاولة ويلاحظ ذلك المعلم الذي هو من منطقة الساحل شدة التعب على التلاميذ إلا أبناء المتصرف أو مدير ناحية المنطقة أو ابن صاحب الدكان سرعان ما يتجول المعلم بين الطلبة في الفصل متسائلاً : – – هل قمتم بحل الواجب وهل حفظتم أبيات الشعر وهل أنتم مستعدون للإجابة على الدرس , يرفع عدد من الطلبة لا يتجاوز أربعة أيادهم ويهزون رؤؤسهم بحركة تشير إلى نعم وباقي الطلبة لا إجابة ولا رفع أيادٍ ولاهزة رأس ومن بينهم صالح . وصوت عالٍ وفي وسط الفصل يتسأل المعلم بصوته الجهوري لماذا لم تقم بكتابة الواجب ومراجعة الدروس يا صالح .
مرتجفاً كورقة زهرة ذابلة يقف صالح والخجل والارتباك يعلو محياه مجيباً : – يا : أستاذ أنا أذهب مع أبي إلى المزرعة بعد الظهر وسرد له تلك قصة تعبه وكده قصة يعلم أستاذه جل تفاصيلها بحكم معيشته في القرية فترة كافية لمعرفة كل تلك التفاصيل وما تعانيه الأسر والعائلات من قسوة الحياة وضنك المعيشة .
تمضي الأيام وفي ليلة شتوية قارصة وأثناء جلوس صالح كعادته بين أفراد أسرته في ( دار الشتاء ) حول طابونة النار وعلى ملامح والده يظهر التوتر الذي حاول إخفاءه وهو يقلب الجمرات قبل أن يقول :- اسمع يا صالح عليك أن تترك الدراسة وتذهب إلى مدينة سبها وتبحث عن عمل من أجل أن تساعدني في توفير حاجيات البيت وإخوتك . مضيفاً بتنهيدة عميقة أنا تعبت جدا من عمل المزرعة . تغيرت ملامح صالح فجأة تهشمت كل الأحلام في مواصلة الدراسة والتخرج ، كان حلم صالح أن يكون معلماً . لم يعلق بشيء ظل صامتاً للحظات بل لساعات في سرعة البرق تمكن والد صالح من الحصول على وسيلة لنقله من قريته إلى المدينة ( سبها ) و هي سيارة حكومية تتبع لوزارة الصحة تحمل الأدوية إلى بعض العيادات في القرى .
جلس صالح حزين في سيارة الاندروفر من الخلف أعطاه والده 5 دنانير مشددا عليه حافظ عليها جيدا . ولم ينس أن يوصي السائق بابنه خيراً . وصل صالح إلى مدينة سبها لبيت ابن عمه المتكون من غرفة واحدة مبنية من الصخور محاط بها سور من الطوب الطيني . حاول صالح الحصول على عمل في ظرف أسبوع لكن الحظ لم يحالفه. وكان يلتقي يومياً بشباب مثله من مختلف قرى فزان يبحثون عن عمل و في أحد الأيام كانوا جالسين قرب محطة للحافلات عرض عليهم أحد الأشخاص فكرة السفر إلى طرابلس وأن العمل هناك متوفر في شركات النفط وغيرها أخذت الفكرة تدور في رأس صالح ورفاقه واتفقوا في اليوم الثاني على السفر إلى طرابلس ، صعدوا الحافلة منهم من هو جالس على كرسي وآخر يقف على قدميه وجرت العادة في تلك الحقبة من الزمن أن يكون السفر من سبها إلى طرابلس عبر الحافلة وبالطبع تختلف أسعار التذاكر فسعر المقعد أغلى من سعر الوقوف. انطلقت بهم الحافلة في ذلك المساء الغائم ووصلوا إلى مدينة هون في الليل و كان بها مطعم الزرب ( أي مطعم مشيد من جريد و سعف النخيل ).
و ترجل الجميع من الحافلة طالبين وجبة العشاء التي يبلغ سعرها 250درهم متكونة من صحن طبيخ و قطعة خبز فقط تناول صالح وجبة العشاء في ذلك المطعم . بينما أخرج بعض رفاقه ( الزاد ) وهو عبارة عن تمر معجون مضاف إليه الزيت .وجلس الرفقة أمام الحافة تناولوا ما كتب لهم الله من رزق وانطلقت الحافلة تسير طوال الليل دون توقف إلى أن وصلت إلى منطقة أبوقرين لتزود بالوقود . وفي الصباح الباكر وصلت الحافة إلى طرابلس غادرها الجميع وكان في استقبال البعض أهل فزان المتواجدون هناك من أجل معرفة أخبار فزان وأهلهم ومساعدة من يصل إلى طرابلس من فزان . اقترب من صالح أحد المستقبلين متسائلاً من أين أنت يا ابني من أي منطقة . أجابه : صالح من قراره وطلب منه أن يوصله إلى معسكر الملك إدريس السنوسي حيث يوجد عم صالح العسكري هناك و انطلقاً معاً سيراً على الأقدام . وصل صالح المعسكر وسئل عن عمه فاخبروه أنه سوف يخرج في نهاية الدوام وانتظر الرجل وصالح أمام البوابة حتى خروج العم .
وصاح صالح عمي وكانت فرحه كبيرة وأخد العم صالح يد ابن أخيه وشكر ذلك الرجل على معروفه في إيصال ابن أخيه إلى المعسكر . وذهب صالح إلى بيت عمه في أحد أحياء طرابلس وكان عبارة عن غرفتين وحمام ومطبخ يقيم عمه في غرفة هو وأسرته وفي الغرفة الأخرى رجل آخر والمطبخ مشترك وكذلك دورة المياه . قبل أن يغادر صالح المحطة اتفق مع رفاقه أن يكون موعد لقائهم صباح اليوم التالي في محطة الحافلات حتى ينطلقوا للبحث عن العمل … يتبع .. القصة : بقلم عكاز