مناكفة “عش الدبابير”
فرج عبدالسلام
منذ أربعة عقود خلت، ووقوع حادث اقتحام السفارة الأميركية في طهران خلال ثورة الخميني، واحتجاز اثنين وخمسين دبلوماسيا أميركيا كرهائن، عُرف الصراعُ الأميركي الإيراني بالتطرف في الخطابة وإطلاق النعوت من طرف على الآخر من قبيل – “الشيطان الأكبر” و “محور الشر” وشعارات يحملها وكلاء إيران في المنطقة مثل “الموت لأميركا، والموت لإسرائيل” ومع ذلك جرى بشكلٍ ما، احتواءُ هذه العداوة المُضمرة في إطار حسابات دقيقة وضبط نفس. وامتنع الطرفان في الغالب عن استهداف مواطني أو قوات بعضهما البعض مباشرة. هذا الوضع انتهى فجأة في صباح يوم الجمعة بضربة صاروخية أميركية على قافلة صغيرة قرب مطار بغداد أدت إلى مقتل الجنرال قاسم سليماني، القائد القوي والمتشدد لفيلق القدس الإيراني. لكن الأهم هو أنّ الضربة حطمت ما اعتُبر مبدأ متعارف عليه في السياسة الأمريكية سواء الجمهورية أو الديموقراطية، وهو تجنبٌ محسوبٌ بدقة للمواجهات المباشرة التي قد تنتهي بحرب مع إيران، أو إلى خطر متزايد لنزاع إقليمي أوسع، ولهذا السبب شبّه خبيرٌ أمني أميركي الحادثة بأنها “مثل ضرب عش الدبابير بعصى غليظة، فأنت لا تفعل ذلك إلا إذا كنت على استعداد للذهاب إلى الحرب مع الدبابير.” فالخبراء في الشأن الإيراني يقولون إن مقتل سليماني – الذي يحظى بدعم ملايين الإيرانيين ويُنظر إليه على نطاق واسع كزعيم سياسي مستقبلي للبلاد – يعتبر تصعيدًا خارج الحسابات المعهودة ، وسيؤدي بالتأكيد إلى ردّ فعلٍ ما.
المعروف أن إيران ليست ندّا للولايات المتحدة عسكريا، إلا أنها أمضت عقودا في إنشاء شبكة من الميليشيات الإقليمية المتحالفة، والخلايا النائمة، والعملاء السريين القادرين على تنفيذ هجمات لا يمكن تعقبها بسهولة إلى إيران نفسها. كما زودت إيران وكلاءها بالمعدات والدراية الفنية ،ما مكنهم من القيام بهجمات متطورة . وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن خير دليل. لكن ليس بالضرورة أن يكون الردّ الإيراني سريعا، لأنها ستحاول أن يكون موجعا، وستعمل على تجنب وضع اللوم عليها.
طوال السنين الثلاثة السابقة من عمر إدارة ترامب عُرف الرئيس الأميركي بتصرفات وصفها البعض بالخرقاء، وأنها غير معهودة لساكن البيت الأبيض، ومع ذلك رفض ترامب أن يأمر بضربة انتقامية بعد أن أسقطت إيران طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار في يونيو، أو عندما أطلقت إيران صواريخ على منشأة نفط سعودية في سبتمبر الماضي. لكن المعطيات تغيرت الآن. ولهذا لا يُستبعد أن يكون قرار ترامب الأخير بتجاوز الخطوط الحمر كما يقال، هو الخروج من المأزق الخطير الذي يجد نفسه فيه الآن، بعد أن صوّت الكونغرس على قرار مسائلته تمهيدا لعزله، لينضم إلى عدد محدود من الرؤساء الأميركيين الذين تلطخت سيرتهم بتجاوز الدستور والقانون، وبالتالي ربما رأى أن قتل سليماني سيؤدي إلى تخفيف الضغط عليه وبالأخص إذا انشغل مع إيران في حرب محدودة أو شاملة.
هناك تطورات كثيرة بعد مقتل سليماني ولكن البعض يرون أن إيران ستكتفي بقرار البرلمان العراقي غيرُ المتوقع بالمطالبة بخروج القوات الأميركية من العراق، وإعلان إيران الصريح بعدم التزامها بالحد من تخصيب اليورانيوم، والمضي قُدما في برنامجها النووي… ليس من السهل التنبؤ بقادم الصراع لكن المؤكد أن الشرق الأوسط مُقدمٌ على تحوّلات خطيرة. وأنه في هذه المرحلة ، ليس لها نهاية واضحة في الأفق.