مناعة الليبيين ضد المتاجرة بالدين
سالم العوكلي
ثمة الآن صراع خفي داخل المجتمع الليبي بين التدين الشعبي والتدين “النخبوي” الذي ينتظم في مجموعات وفرق، بمعنى آخر يقف الوجدان الليبي في مواجهة تيارات أو فرق أو شيع تحاول توطين مذاهب وافدة أنتجتها صراعات سياسية وأجندات دولية لتوظيفها في صراعاتها، أو حاولت أنظمة سابقة توطينها لأنها وجدت فيها ضالتها لتستمر في الحكم، ومنذ بداية الصراع في ليبيا على السلطة بين هذه التيارات كانت عبارة “التيار الوطني” تتكرر كمقابل لتيار الإسلام السياسي، وكأن ثمة مكبوت شعبي يدرك أن هذه التيارات الدينية ضد مفهوم الوطن والوطنية، وهو أمر لا يخلو من حقيقة، رغم أن هذه التيارات أنشأت تحالفات مؤقتة مع قوى وطنية في الشرق والغرب (وأقول الغرب والشرق لأننا الآن في حالة استقطاب جهوي قصوى تتلاعب به كل هذه التيارات) وأن الجيش الليبي مازال هو القوة الوحيدة على الأرض التي تؤمن وتعمل على ترسيخ الوحدة الوطنية التي كانت إحدى شعارات ثورة فبراير.
منذ البداية لم يَمِل الشارع الليبي لهذا التيار الذي نجح في انتخابات الجارتين تونس ومصر، والليبيون العارفون بدينهم يرفضون هذه الفرق نزولا عند الآيات الواضحة التي أسمعها كثيرا ضمن حجج اعتراضهم على هذه الجماعات (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) أو (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون).
كما أنهم يُستفزون من كل من يزايد عليهم في أمر الدين أو يستخدمه شعارا لبرامجه السياسية أو جسرا للوصول إلى السلطة، فهم قد يتسامحون مع من يتاجر في الوقود أو في البشر أو في الآثار أو في المخدرات، لكنهم لا يتسامحون مع من يتاجر في الدين الذي يشكل لب حياتهم.
هذا الامتعاض من هذه التيارات أقابله في كل مكان، في حديث المآتم وفي الطوابير وفي زيارتي للقرى، كما يمكن ملاحظته في الأوقات التي تعلن هذه الفرق فيها عن عقائدها، أعياد المولد النبوي أو أثناء الدفن في المقابر، حيث المواجهات واضحة بين وجدان شعبي وفكر غريب لا يتناغم مع الإجماع المجتمعي.
هذه التيارات دُعمت من قبل أنظمة دكتاتورية دون أن تتخلى عن حذرها منها، لكنها كانت وسيلة هذه الأنظمة ضد التيارات الأخرى، اليسارية والعلمانية والليبرالية، التي تلح في مسألة الإصلاح السياسي والديمقراطية وتداول السلطة، والمعروف أن النظام الليبي السابق عمل منذ تسعينيات القرن الماضي على توطين التيار السلفي غير الجهادي وفق برنامج مدروس بدأ منذ نهاية التسعينيات وبشكل منظم، مثلما حدث في مصر ودول أخرى يفتقد فيها الحكام للشرعية وباعتبار هذا التيار الناعم تملي عليه عقيدته طاعة ولي الأمر حتى وإن كان سفاحا، وفي تلك الفترة كنا نرى كتبهم تغزو المكتبات والأشرطة وبعض شيوخهم في الفنادق الفخمة .
أما الوطنية فكما قلت سيظل مصطلحا غامضا، وبالنسبة لي هو صدى لمفهوم المواطنة أو رد جميل لحقوق المواطنة التي يهبها الوطن كفضاء حقوقي للإنسان فيصبح تلقائيا منتميا لهذا الفضاء وفق مصالح تخص وجوده وحقوقه ورفاهه، وحين لا يتحقق هذا الشرط فسيغرق الآلاف من النازحين عن أوطانهم بحثا عن مكان من الممكن ان تتحقق فيه هذه الشروط، أو يتحول الوطن مكانا للياغمة وللنزاعات والفساد.
لعل الجيوش في العالم كله هي أكثر المؤسسات احتراما من قبل المواطنين وأكثرها مصداقية فيما يخص “الوطنية” بمعناها المباشر، لأن جنودها، وببساطة، مستعدون لدفع حياتهم دفاعا عن الوطن، لكن الوطنية وحدها لا يمكن أن تحقق حق المواطنة، الثمرة الوحيدة لها، إن لم تفرغ هذه القيم في مواثيق وضمانات قانونية أو دستورية تبرز معنىً لمفردة الوطن المجردة عندنا، وتفرغ الحرية كشعار مطلق في (حريات) يمكن التعبير عنها بوضوح ويمكن لمسها. ولا نملك إلا أن نطالب بهذه القيم مهما أظهر الواقع أنها بعيدة أو صعبة ففي جوهرها تشكل نزوعا فطريا للإنسان، والدول التي حققت تقدما بشأنها عرفت كيف تدير هذا النزوع الفطري وتنظمه في قوى قادرة في كل وقت للنزول إلى الشارع والدفاع عنها.
أما تسييس الدين فمبعثه كون كل صراع يحتاج إلى حشد، وأفضل طريقة للحشد هي التلاعب بالوجدان الجمعي، وأنجع طريقة لذلك هي استخدام الدين أو الخرافة بشكل عام لأنها ذخيرة العقل الشعبي في تعامله مع أسئلته الوجودية. اكتشاف أمريكا ، أو بالأحرى فتحها، ومن ثم القضاء على أمة تسكنها وتحولها فيما بعد إلى أكبر قوة فوق الأرض بدأ بهذا التلاعب بالمشاعر الدينية حيث كانت ذريعة قوافل الاستكشاف من أجل الحصول على التمويل أن تعود بالذهب لتنشئ جيشا قويا يعيد القدس للصليبيين وهذا ما أقنع ملوك أسبانيا والرأي العام بتمويل هذه الحملة . إسرائيل الدولة النووية، وأقوى دولة الآن في المنطقة، وأكثرها ممارسة للديمقراطية في نظامها الداخلي، بدأت بترويج خرافات توراتية عن أرض الميعاد من أجل أن تحشد عواطف اليهود وتضمن دعمهم وهجرتهم فيما بعد لهذا الكيان الذي أسسته عصابات شيوعية تستخدم الخرافة بدعم من الاتحاد السوفياتي، وعلمانيو إسرائيل الآن هم أصحاب أطروحة إسرائيل يهودية . والأمثلة كثيرة على هذه الكوكتيل من التناقضات التي تحرك التاريخ.
كل هذه صراعات قديمة وتقليدية،غير أن الجديد على العالم ثورة كونية كبرى يمر بها الكوكب تتمثل في الثورة الرقمية وما تبعها من تقنيات تواصل بدأت تستلم مهمة الحشد وتضع الوسائل القديمة في الخلف . بما فيها القوى السياسية أو الأحزاب المعارضة التي كانت تملأ الميادين والشوارع بالحشود، ولعل ظاهرة السترات الصفر الخارجة عن تحكم هذه الأدوات التقليدية مثال مناسب ــ ولا أنكر استغلال هذه الثورة الرقمية من قبل القوى الدينية المتطرفة لترويج أفكارها ــ لكن ما نراه الآن على شبكة الإنترنت من سخرية وتهكم على الفتاوى الغريبة وعلى الفقهاء ورجال الدين يحيلنا إلى ما حدث للمسيحية ورجال دينها في حقبة سيطرة الكنيسة واصطدامها بالمعارف العلمية وتطورات الحياة والمجتمع في أوروبا، حيث كانت العلمانية الوصفة المناسبة لحماية المسيحية من الانقراض وإنعاش جوهرها الروحي بعيدا عن السلطة والسياسة والتورط في الشأن العام الذي جعلها محط تندر مقلق.
نحن الآن في قلب الثورة الرقمية وتقنية المعلومات التي قلبت موازين العالم التقليدية، ولا يمكننا تصور القادم بوضوح، خصوصا مع هذه الوتيرة المتسارعة لشطحات هذا التحول. في هذه الحالة الشباب يغوصون في هذا المحيط المعرفي في كل أنحاء العالم ، ما يجعل مع الوقت مفاهيم مثل الخصوصية الثقافية أو السيادة الوطنية أو الوعي الباطن أو الفلكلور مفاهيم بالية تجاوزها هذا العالم الرقمي الذي سيسبح جيله القادم في بحيرة واحدة ويحلق في أفق واحد، وسيكون من الصعب عزل المجتمعات في جيوب خارج حركة العالم، ومن الصعب العودة إلى الخلف ونحن ضمن قطار، شئنا أم أبينا، منطلق بقوة نحو مغامرة المستقبل بكل مبهر فيها أو غامض أو مخيف.