مفيدة جبران: نحتاج إلى نصوص قانونية صارمة ورادعة لإنهاء العبث بتراثنا
خلود الفلاح
لا شك أن الظروف التي تمر بها البلاد انعكست سلبيًا على مختلف مناحي الحياة ومن بينها المدن والمواقع التاريخية التي تعرضت للسرقة والتعديات البشرية.
وكانت لجنة التراث العالمي “اليونسكو” قد أدرجت 5 مدن أثرية ليبية، العام 2016، على قوائم الحظر، وهي المدينة القديمة غدامس المعروفة بــ “لؤلؤة الصحراء” والموقع الأثري شحات شرق البلاد والمدينتان التاريخيتان لبدة وصبراتة على الساحل الغربي اللّتان كانتا جزءًا من المملكة النوميدية الزائلة وجبال أكاكوس على الحدود مع الجزائر التي تتميز باحتوائها على الكهوف والمغارات ولوحات يعود تاريخها إلى ما بين 12 ألف عام قبل الميلاد ومائة ألف عام.
وفي السياق ذاته، أعلنت ليبيا منذ أيام استعادت تسع قطع أثرية من الولايات المتحدة، بينها رؤوس حجرية جنائزية وجرار وقطع فخارية، كانت قد هُرِّبت من طرابلس بشكل غير قانوني نتيجة الحفر العشوائي في بعض المواقع.
وحول أهمية هذا التراث والجهود المبذولة من أجل حمايته، التقينا مستشارًا علميًا بالهيئة الليبية للبحث العلمي، كاتبة في مجال التاريخ والتراث والأدب الدكتورة مفيدة محمد جبران ولها عدد من الكتب المنشورة نذكر منها: الأسواق ـ الفنادق- مبني القنصلية الفرنسية- حوش الحرملك ـ العلاقات الليبية الفرنسية في القرن التاسع، كما أنها متحصلة على جائزة عيد الاستقلال للثقافة للعام 2020، ودرع التميز في اليوم الوطني للتراث 2021، حيث دار الحديث التالي:
تتعرض المواقع الاثرية لاعتداءات مستمرة، ورغم استرجاع بعض القطع المهربة إلا أن هناك الكثير مازال مفقود. ما هي أسباب هذه الاعتداءات؟
ـ أولاً شكرا لحضرتكم لإثارة هذه الموضوع الحساس والمهم في هذه الفترة الحرجة من تاريخ وطننا الغالي ليبيا، ولكن اسمحي لي بنده بسيطة قبل الإجابة عن السؤال. في البداية نعرف الأثر؟ الأثر هو كل ما يدل على مجتمع ما تعاقبت عليه الأجيال على مر العهود، قد يكون الإرث إرثا طبيعيا كالكهوف والمغارات، وقد يكون إرثا لحضارة سادت ثم بادت، أو إرث غير مادي المخطوط والشفهي الذي يحمل المخزون الفكري والثقافي الفني.
ومنذ بداية القرن العشرين برزت أهمية الإرث الثقافي الإنساني الليبي المتنوع والموغل في القدم والتي لا تزال شواهده وأطلاله منتشرة ليومنا هذا عندما قامت بعض البعثات الايطالية بمسوحات أثرية عدة بشكل منظم ومنهجي عقب دخولهم سنة 1911، وكان نتاجها العثور على كم هائل من المتحجرات ترجع إلى أزمنة جيولوجية ما قبل التاريخ، ومجموعة من المقتنيات الأثرية ترجع إلى ثقافات وحضارات مختلفة تعاقبت على أرض هذا الوطن، وإدراكا للقيمة المتفردة لهذا الموروث الثقافي سعت ليبيا جادة للمحافظة عليه وحمايته باتخاذ الإجراءات العاجلة، للحفاظ عليه من عبث العابثين فعملت على سن مجموعة من القوانين لحماية هذا الإرث، أولها: قانون رقم (11) لعام 1953م الذي يضم (24) مادة تعنى بحماية الآثار والمتاحف. وآخرها قانون رقم (3) لعام 1994 م ولائحته التنفيذية، صيغ القانون بما يتوافق مع المواثيق الدولية، وما يهمنا ما جاء في الفصل الثالث من القانون إذ تنص المادة (9) منه على التدابير اللازمة لحماية الآثار والمتاحف في زمني السلم والحرب.
ـ أسباب التعديات والنهب؟
ـ الأسباب عديدة منها، الفوضى التي أعقبت ثورة 17 فبراير العام 2011، اختلال الناحية الأمنية، وغياب الحس الوطني. مما لا شك فيه أن محتويات المتاحف والمدن الأثرية الليبية منذ 17 فبراير تعرضت لخروقات خطيرة جدا هددت كيانها ووضعت الدولة الليبية في وضع محرج أمام المنظمات الدولية التي تعنى بحماية الموروث الثقافي بشكل عام والمتاحف بشكل خاص، خصوصا وأن ليبيا صادقت على جل الاتفاقيات والمواثيق والقوانين الدولية (اليونسكو)، (إيكوم)، (إكروم)، (ايسيسكو) من خلال التتبع لموضوع الخروقات استطعنا الوقوف على حجم الخطر ندرج بعض منها، عمليات السرقة الممنهجة والغير مشروعة لبعض القطع الأثرية داخل ليبيا، منها على سبيل المثال:
سرقة تمثال بيرسيفوني الذي يعود للفترة الإغريقية الذي سرق من مدينة شحات وعثر عليه في مزاد علني بلندن، كان قد وصل عن طريق دولة تركيا بواسطة مواطنين أردنيين واماراتيين، رفعت قضية وتم الحكم بإرجاعه إلى موطنه الأصلي ليبيا، وتم التعرف عليه لتميز النحت الليبي القديم والمتفرد.
سرقة تمثاليْ سيرابيس من متحف مدينة صبراتة وتم استرجاعهما، التماثيل الثلاثة تم العثور عليها في سويسرا.
سرقة مجموعة من الأواني الفخارية من مخازن البعثة الأثرية البولندية العاملة في طلميثة.
سرقة ما يعرف بكنز بنغازي الذي كان محفوظا بالمصرف التجاري ببنغازي منذ العام 1964، يعتبر هذا الكنز عبارة عن مجموعات من العملة الذهبية والفضية والبرونزية وحليات ذهبية وكذلك مقتنيات معدنية أخرى وفخارية ومنحوتات صغيرة أكثر من 7000 قطعة أثرية.
هذا بعض ما رُصد ومعروف، وهذا قد يدفعنا للقول إن العملية يمكن تمت بمشاركة عدة جهات أمنية وجمركية في المنافذ البرية والجوية والبحرية. وربما بعثات دبلوماسية وذلك لأن حجم التماثيل كبير والسرقة ستكون واضحة للعيان.
وختاما، لابد من الإشادة ببعض مجهودات مصلحة الآثار والمجلس الدولي للمتاحف في إصدار ما يعرف بالبطاقة الحمراء، وهي بطاقة توضع فيها صور ومعلومات للتحف والمقتنيات النادرة والمميزة والمستهدفة بالسرقة والنهب بهدف حمايتها وتأمين استرجاعها في حالة سرقتها. توزع هذه البطاقة على كل دول العالم، ومؤسسات الآثار والمتاحف والانتربول، للحد من الاتجار بالتحف الفنية والآثار. وهذه البطاقة كان لها الفضل في التحفظ على التماثيل المسروقة واسترجاعها.
ـ هل لابد من تفعيل قوانين أكثر صرامة للمحافظة على هذا التراث؟
ـ أعتقد أن القانون رقم (3) لعام 1994م، من وجه نظري ومن خلال دراستي لنصوصه يحتاج إلى إعادة النظر في نصوصه بما يتماشى بالمستجدات التي ظهرت مؤخرا. فحالة الفوضى التي أعقبت الثورة والنزاعات المسلحة نبهتنا لوضع تراثنا. نحتاج إلى نصوص قانونية صارمة ورادعة لكل من يساهم في العبث أو التشويه أو الطمس أو المتاجرة بتراثنا. إضافة إلى ضرورة زيادة الوعي بأهمية هذا التراث. فلابد من تدريس مادة التراث بشقيه كأحد مناهج الدراسية منذ التعليم الأساسي إلى أعلى المستويات التعليمية.
وفي هذا السياق، تقدمت بمقترح إلى عميد كلية الآداب بجامعة طرابلس باستحداث قسم للتراث المادي والغير مادي وقبل المقترح وشكلت لجنة لدراسته واعتمد المحضر وفي انتظار موافقة المجلس الأعلى للجامعة. السؤال الذي يطرح نفسه، كيف سيكون وضع آثارنا مستقبلا؟ الجواب، لابد أن تتغير نظرة الدولة للتراث. واعتباره رافد من روافد الاقتصاد الليبي. وأن تولي الدولة اهتمام أكبر بصرف ميزانيات تلبي احتياجات الخطط المرسومة المستقبلية لصون واستدامة التراث. وتوحيد الجهات المسؤولة على حماية وصون التراث بجسم موحد كوزارة تتبع مجلس الوزراء بمعنى توحيد التبعية.
ـ هل هناك مطالبات جادة من السلطات الليبية لاستعادة ما تمت سرقته؟
ـ نعم. لكن أمر التنفيذ يأخذ فترة زمنية طويلة أولها لإثبات السرقة. لذلك لابد من إجراءات تنفيذية تقوم بها الدولة الليبية مثلا أن يكون هذا الأثر مسجل ومرقم ومحدد صفاته الفنية وموثق بكافة وسائل التقنية الحديثة فهذا يساعد على إرجاع المسروقات بسرعة. لابد أن تكون الخارجية الليبية وصانعي القرار على دراية بأهمية التراث وكيفية التعامل الدبلوماسي القانوني بما يخص هذه الملفات.
بالنسبة للجهود المبذولة في السابق والوقت الحالي مصلحة الآثار وتحديدًا قسم استرجاع الآثار المسروقة والمنهوبة كان له دور كبير في استرجاع العديد من القطع من ألمانيا ولندن وأميركا واليونان والعديد من الدول ومازال العمل مستمر.