مغامرات أردوغان تضع اقتصاد تركيا على مفترق طرق
جلدم أتاباي شانلي
حزم البيانات المعلنة في تركيا بدءا من التضخم إلى النمو، ومن ميزان المدفوعات إلى التوازن المالي تضيء جانبا مهما من القصة لمتابعة المراحل التي وصل إليها الاضطراب الاقتصادي ما بعد أزمة سعر الصرف في أغسطس 2018، والتي كانت واحدة من الأزمات الاقتصادية التاريخية، وتحديد النقطة التي وصلنا إليها في طريق عودة الأمور إلى طبيعتها.
ومع ذلك، فإن طريقة إدارة الاقتصاد التركي، وخصوصا في العامين الماضيين، تتسبب في تناقض بين البيانات المعلنة والحقائق، بسبب تدمير القواعد الضرورية للغاية في نظام اقتصادي يسعى إلى أن يكون ليبراليا.
وعلى سبيل المثال، انخفضت قيمة الليرة بنسبة 36 في المئة ووصلت أزمة سعر الصرف إلى ذروتها، ليصل إلى أقل من 9 في المئة في أكتوبر الماضي، وهذه العملية يمكن اعتبارها بمثابة قصة نجاح جاءت نتيجة للجهود المكثفة لأي بنك مركزي “مستقل”.
لكن مقاومة الرئيس رجب طيب أردوغان للزيادة في أسعار الفائدة رغم علامات الاحتباس الزائد، والتي سُجلت في الأشهر التي سبقت اندلاع أزمة سعر الصرف، كانت تمثل حقيقة ملحوظة.
وعندما خرجت الأمور عن السيطرة في النهاية تعين تحمل تكلفة أعلى بسبب تأخير خطوات كان يجب اتخاذها قبل عدة أشهر، وشهدنا خفض معدل التضخم إلى رقم واحد بسبب زيادة كبيرة في سعر الفائدة.
إن إقالة محافظ المركزي في يوليو 2019 بسبب “مقاومته” لخفض سعر الفائدة، وتدخل أردوغان شخصيا في الأمر وزعمه أن “التضخم ينخفض إذا انخفض سعر الفائدة” إلى جانب خفض سعر الفائدة بمقدار 1.275 نقطة أساس في غضون بضعة أشهر فقط تزامنا مع تعيين رئيس جديد للمركزي، وارتفاع مؤشر تضخم أسعار المستهلك في الفترة الممتدة حتى يومنا هذا فوق 12 في المئة بطريقة لا تفاجئ المختصين على الإطلاق؛ كل ذلك كان جزءا لا يتجزأ من أسلوب وطريقة الإدارة الاقتصادية الجديدة في تركيا.
بسبب أردوغان توشك تركيا أن تعيش لسنوات في بيئة منخفضة النمو وكثيرة الأزمات، أي في نظام اقتصادي شبه مغلق
بعد ارتفاع أسعار الفائدة من أجل كبح سعر صرف الليرة من جديد، ومن ثمَّ منع حالات الإفلاس المتتابعة المتعلقة بأسعار صرف العملات الأجنبية فإن عجز الحساب الجاري الذي تطور إلى مستوى الصفر في 18 شهرا من حد 60 مليار دولار تزامنا مع تقلص الطلب المحلي بشكل حاد طوال العام الماضي، يمثل موضوعا منفصلا للنقاش.
ولو أننا لم نشهد ارتفاع معدل البطالة إلى ذروته حيث بلغ 15 بالمئة في هذه الفترة، فربما كان من الممكن أن نصدق بأن هناك قصة ولادة جديدة من حضن هذا الرماد؛ إلا أن معدل البطالة الذي لا يزال في حدود 14 في المئة اليوم، لا يزال يجعل الجميع منتبهين لمدى تباين الحقائق.
وعلى حين تتحقق كل هذه التطورات، لا يزال يحوم في الأسواق التركية اليوم شبح نجاح منع فقدان الليرة التركية قيمتها حتى لا تؤدي إلى خسارة في الأصوات الانتخابية، والضغط على المستثمرين الأجانب بحملة سوق لندن لعقود مبادلة الأوراق المالية التي تضر بتلك العقول.
ومع أن تخفيضات مجلس الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة تمنح الأسواق الناشئة قبلة الحياة فإن جهود المستثمرين الأجانب للتخلي عن سوق السندات التركية بانتظام طيلة الأشهر الخمسة الماضية هي وجه آخر فحسب لأزمة الثقة التي خلقتها إدارة الاقتصاد.
أما تخفيض البنك المركزي أسعار الفائدة على السندات عبر تدخله في سوق السندات فإنه يعكس مدى هيمنة العجز الذي تعاني منه الإدارة الاقتصادية في البلاد.
وبعد التغاضي عن الاحتباس الاقتصادي المفرط الذي يحفز أزمة سعر الصرف فإن استخدام أساليب مالية جديدة لا تُعقل من أجل دعم الاقتصاد التركي الذي اضطر للانكماش يخلق مجالات لأزمات جديدة، مما يمثل إحدى القضايا الاقتصادية اللافتة للانتباه في الوقت الحالي.
إن الانخفاض في نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي، والذي كان مجال النجاح الأكثر أهمية بعد أزمة 2001، قد انقلب إلى عكسه بالمعنى التام.
وفي حين أن العجز أقل من واحد في المئة وصل إلى 4 في المئة، فإن وزارة الخزانة التي كانت تطمح في موارد البنك المركزي، قد خلقت موارد جديدة أيضا لمواصلة الإنفاق عبر إجرائها سلسلة من التغييرات في القواعد.
ومن خلال طرق ملتوية تقوم الفرق الخاصة المشكلة في البنوك العامة بالتدخل في سوق الصرف الأجنبي تعاونا مع البنك المركزي كلما تحرك سعر الليرة التركية، وتجري محاولات للإبقاء على الليرة التركية دون حدود نفسية معينة مع زيادة التكلفة يوميا.
وفي الوقت الذي تواصل فيه البنوك الحكومية توزيع القروض بأسعار فائدة منخفضة، تضطر البنوك الخاصة إلى التنافس مع البنوك العامة مع تطبيق تدابير عقابية. والنتيجة، لجوء المودعين المحليين إلى حسابات العملات الأجنبية بنسب متزايدة، وتهربهم من الليرة.
سياسات اقتصادية خاطئة يدفع ثمنها الأتراك
لا بُدَّ أن يعرف الجميع حقيقة أن قرارات الإدارة الاقتصادية، ولاسيما خلال الـ18 شهرا الماضية، وتغيير القواعد بشكل متكرر من أجل إيجاد حلول مؤقتة لإنقاذ الموقف، وتراجع النمو الاقتصادي إلى ما بين 4 و5 في المئة، والخطوات التي تم اتخاذها مكلفة ومحفوفة بالمخاطر.
ويتضح في التقارير المعلنة، وعلى رأسها الواردة من المركزي، أن “الشجاعة” في تحمل هذه المخاطر تنبع من حقيقة أن البنوك المركزية الكبرى يجب أن تحافظ على ميزانياتها العملاقة بينما آلام النمو الاقتصادي العالمي لا تزال قائمة. ولكن مدى ضحالة الفرضية الأساسية وتجاهل وقوع المخاطر في إطار هذه الضحالة لا يكفي لإخفاء حقيقة أن الاقتصاد التركي يتحول من جديد، وبشكل سريع، إلى قنبلة موقوتة.
وبينما تتطور في مناطق مجهولة لم تُكتشف بعدُ الإدارة الاقتصادية بفضل الصلاحيات التي منحها إياها النظام الرئاسي فإن تناقص الدعم الموجه لأردوغان وزيادة حالات الغموض في السياسة الخارجية ينتهيان بتحول الاقتصاد للانطواء على نفسه على نحو متزايد.
يجب أيضا التذكير بأنه حتى الممارسات التوسعية للبنوك المركزية الكبيرة لا يمكنها القضاء على المخاطر الناجمة عن قرارات السياسة الخارجية من خلال العقوبات الاقتصادية.
إن اقتصاد تركيا الذي يسعى إلى التقدم منذ سنوات في مجال التوافق المالي والاقتصادي مع العالم الخارجي، والذي استطاع تحقيق نمو اقتصادي على الرغم من موارده الداخلية المحدودة يقف الآن، ونحن في بداية عام 2020، في مفترق طرق خطير.
في النهاية يوشك أسلوب وطريقة “أنا أعلم وأنا أفعل، لقد فعلت ونجح” أن تضطر الاقتصاد التركي، وكل فرد في هذه السفينة إلى أن يعيش لسنوات في بيئة منخفضة النمو وعالية معدلات التضخم وكثيرة الأزمات، أي في نظام اقتصادي شبه مغلق.