معركة الكسكسي
الحبيب الأسود
لا أعتقد أن هناك من يشك في أصالة الكسكسي الليبي المحترم سواء كان بالبصل أو الخضار أو اللحم أو السمك، ولا يمكن لأي متذوق محايد أن ينقص من قدره وهيبته بين بقية كساكس المنطقة، حتى أن السفير الألماني في ليبيا أوليفر أوفتشا قال الأسبوع الماضي إن أفضل طبق كسكسي تناوله في غريان، وجاء تصريحه ذاك في سياق الجدل الذي اتسع منذ أيام حيث استنكر الليبيون استثناء بلادهم من عصبة دول الكسكسي التي أعلنتها اليونسكو وهي تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، في سياق اختيار هذا الطبق المغاربي ضمن لائحة التراث العالمي.
كان الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، يقول إن المنطقة المغاربية تبدأ من حيث يبدأ الكسكسي وتنتهي عند نهايته، ويبدو أن تلك الرؤية صحيحة، فهذا الطبق يبدأ حضوره الفعلي من غرب ليبيا وصولا إلى المحيط الأطلسي بوجهيه المغربي والموريتاني، وهو كما يعرف الجميع ابن بيئة تعتمد في غذائها على حبوب القمح والشعير دون غيرها تقريبا، وله امتدادات في دول كمصر والسودان وفلسطين، وحتى في الحوض الشمالي للمتوسط وخاصة في صقلية والأندلس وفي فرنسا حيث يعترف به ثاني أفضل طبق لدى أهلها.
ورغم أن فعل كسكس يعني في اللغة العربية: دق الحب دقا شديدا، إلا أنه لا شك في أن أصوله أمازيغية، وقد تم العثور على أواني طبخ تشبه تلك المستخدمة في تحضير الكسكسي في مقابر تعود إلى فترة الملك ماسينيسا (238 ق.م -148 ق.م)، وقد ذكره ابن دريد (837م /933م) في كتابه جمهرة اللغة تحت مسمى كسكس، وقال الحسن الوزان المعروف بليون الأفريقي (1494-1554) «عرف البربر بلبس البرنس وحلق الرأس وأكل الكسكسي».
وإعداد الكسكسي فنّ، ومن أهم مراحله عملية الفتل، حتى أنه يسمى في فلسطين وبلاد الشام بالمفتول، وجاء في القاموس: فتلت الكسكس أي دعكت الدقيق مخلوطا بقطرات الماء ليتحول إلى حبات صغيرة، ومنذ أيام أثارت وزيرة الثقافة الجزائرية، مليكة بن دودة، جدلا واسعا عبر الشبكات الاجتماعية، بعد قولها إن المرأة التي لا تجيد فتل الكسكسي تعتبر تهديدا لأسرتها، وفي ذلك دعوة صريحة للنساء ليتعلمن من الأمهات والجدات إعداد المادة الخام للوجبة، حتى لا يبقين أسيرات العبوات الجاهزة التي تصنعها الآن المصانع، والتي لا ترتقي إلى الأصل، وخاصة إذا كان من كسكسي العولة الذي يعدّ بعد موسم الحصاد صيفا، ليرافق الأسرة على امتداد العام.
وللكسكسي أكثر من مئتي نوع، وهو بذلك كالأرز من حيث قابليته للتجاوب مع مختلف المرفقات من البقول والخضار واللحوم والدواجن والأسماك وثمار البحر وحتى المكسّرات والفواكه والسكاكر والألبان، حتى أن السكان المحليين كانوا يعتمدون عليه كطبق يومي يشيد به خبراء التغذية كوجبة متكاملة ويتغنّى به الشعراء، وبه تحفل الولائم في الأعراس والمضائف وحتى في المآتم.
وبالعودة إلى ليبيا، فإن ما تبيّن لاحقا في مسألة معركة الهوية والانتماء والاعتراف العالمي، هو أن الدولة هناك لم تمض على اتفاقية صون التراث الثقافي اللامادي مع اليونسكو، وهو ما حال دون إدراج اسمها في منظومة الكسكسي. وقد أعرب الأشقاء الليبيون عن غضبهم من تقصير سلطات بلادهم في حق تراثها الثري، خصوصا وأن لا أحد بوسعه أن يفصلهم عن موروثهم وبيئتهم ومحيطهم وخصوصياتهم الثقافية.
ويبدو أن السفير الأميركي ريتشارد نورلاند حاول الركوب على الحدث، عندما قال إن الآن هناك الكثير من الأشياء التي توحّد الليبيين أكثر مما تفرقهم، معتبرا أن طبق الكسكسي يمكن أن يكون مثالا لإحراز تقدّم في مجالات أخرى، لكنه أخطأ بالتأكيد، لأن الأزمة في البلاد ليست مرتبطة بمحبي الكسكسي ولا بالمدافعين عنه، ولكن بالمتصارعين على الأرض والثروة والحقل والبيدر والحبوب والمقفول (القدر) والكسكاس، وليس على الطبق في حدّ ذاته.