معجزة جزيرة البعوض وليبيا الـ”بم بم”
سالم العوكلي
شهر نوفمبر العام 1987، وقدوما من بانكوك هبطت بنا الطائرة ، وأصدقائي : فتحي عياد؛ سعد الرفادي؛ جبريل محمد صالح، مطار سنغافورة الفاره حد الخيال. كانت التأشيرة تُمنح في المطار، وكنا في طابور الجوازات مع سُيّاح من أنحاء العالم، وكان الجميع يذهبون بسلاسة ويتجاوزون حاجز الجوازات دون مشكلة، إلى أن جاء دورنا، وبمجرد النظر إلى جوازاتنا أخرِجنا من الطابور ونُقِلنا إلى بهو مجاور لتفتيشنا بدقة، وبعد أن أتموا التفتيش اعتذروا منا وأعادوا لنا جوازاتنا، ولأننا الوحيدون الذين تعرضوا لهذا الإجراء الذي تم بمهنية ودقة، سألت الضابط : لماذا نحن بالذات؟ فابتسم من كانت يداه تجوب أجسادنا وحقائبنا وقال: “ليبيا .. كادافي … بم بم” . وكانت هذه العبارة تتكرر بصيغ مختلفة طيلة رحلتنا وكلما عرفنا بأنفسنا أننا من ليبيا، وكان علينا أن نكون كمواطنين جزءا من جنون القذافي آنذاك وندفع ثمن تهوره وبحثه عن كل ما يجعله قصة الخبر الأول في نشرات أخبار الدنيا.
ما أريد قوله ، علينا أن نفصل بين الشعوب وقاداتها المجانين أو المهووسين بالقلاقل مثل القذافي وغيره، ومثلما كنا نتمنى أن لا يُحمّلنا العالم جرائم القذافي وحاشيته، نتمنى أن لا نُحمِّل الشعوب ما يرتكبه قادتها وسياسيوها من جرائم فوق أرضنا.
آلمنا ما حدث لنا في طابور مطار أحد أكثر الدول سلاما وسلما وحيادا وتقدما، لكننا بمجرد أن تجاوزنا بوابة المطار وجدنا أنفسنا في أرض من خيال الفراديس ، جزيرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 800 كيلو متر مربع لدرجة أننا كنا حين نصعد في أسانسير زجاجي مفتوح على الفضاء الخارجي نرى حدودها كلها، يقطنها في ذلك الوقت حوالي 3 ملايين نسمة من مسلمين ومسيحيين وبوذيين وسيخ ومن أعراق مختلفة، ورغم ذلك لم نشهد زحاما، أو اقترابا من المساحات الخضراء أو الغابات المحتفظ بها كما هي. هذه المعجزة كانت مجرد قاعدة للأسطول الإنجليزي بعد الحرب العالمية الثانية، واستقلت عن ماليزيا العام 1965 ، لتتحول خلال عقدين إلى إحدى معجزات الأرض والقرن، وليصبح دخلها السنوي خمس أضعاف دخل ليبيا النفطية التي تبلغ مساحتها قرابة المليونين كيلو متر مربع، ضعف مساحة سنغافورا 2400 مرة.
يقف وراء سنغافورا المعجزة رجل يجلونه كثيرا وهو أول رئيس لوزرائها: لي كوان يو – الذي قال في آخر عمره: “كان لدي خياران: “إما أن أمارس السرقة وأدخل أسرتي في قائمة فوربس أغنياء العالم وأترك شعبي في العراء، أو أن أخدم وطني وشعبي وأدخل بلدي في قائمة أفضل عشر دول اقتصادية في العالم.، وأنا اخترت الخيار الثاني.”
تُجمِع آراء المتتبعين على أن إنجاز لي كوان لم يكمن في سياساته الاقتصادية بعيدة النظر فقط، لكن في قدرته على كبح جماح الفساد الإداري منذ البداية، وتقويض البيروقراطية وإتاحة أفضل بيئة للاستثمار الخارجي ، وفتح الأبواب أمام المهاجرين من الكفاءات العلمية والإدارية للإقامة في الجزيرة، إضافة إلى إيلائه الأهمية القصوى لقطاع التعليم والصرف عليه بسخاء.
من المهم في هذا السياق أن اقتبس جزءا من كتاب خبير منظمة الفاو الليبي: د. محمد صدقي ذهني، “عصير العمر: سيرة” الصادر في ديسمبر 2018 ضمن منشورات مؤسسة ميادين لصاحبها أحمد الفيتوري ، بداية من الصفحة 407 يذكر المؤلف عندما كان يدرس بجامعة كامبريدج: “من أطرف ما تعرضت له من مواقف أثناء دراستي في جامعة كامبريدج كان لقائي مع شخصية دولية مرموقة، على غير علم مني بكنه صاحبها أو أهميته؛ دار بيننا حديث طويل استفزني جزء منه، والقصة كما يلي: تعودت بعد انتقالي من السكن بالكلية للإقامة بالمدينة على تناول طعام الإفطار كل يوم أحد بمطعم الكلية لجودته وتدني سعره. في أحد الأيام جئت مبكرا وكان المطعم خاليا إلا من طالبين أو ثلاثة وسيد وقور في منتصف العمر ، بدا من ملامحه أنه صيني، كان يجلس منفردا وجلست غير بعيد منه بعد أن حييته ورد بلطف بالغ رجع بعدها إلى تناول طعامه. ساد بيننا صمت قطعه فجأة بسؤالي عن بلدي ثم عما أدرس وأجبته عن ذلك بأنني من ليبيا وأدرس فسيولوجيا النبات متوقعا أن يبهره هذا التخصص الدقيق. نظر إليّ مليا قبل أن يضيف متسائلا: هل يحتاج بلد ناشئ في طور التنمية مثل بلدك إلى فسيولوجيا النبات؟. وحاولت أن أجيب لكنه استطرد: أليس من الأفضل توجيه الجهود نحو خلق كفاءات في مجالات الصناعة والاستثمار وغيرهما مما تحتاجه دولة في بداية الطريق؟ . يبدو أن إجاباتي لم تكن مقنعة غير أنه استمر في تساؤلاته: كيف تم اختيارك للدراسة في الخارج؟ هل كان ذلك وفق منافسة بين متقدمين كثر؟ وعلى أي أساس تم اختيار موضوع دراستك وهل كان ذلك وفق مخطط يحدد احتياجات بلدك من التقنية والعلوم؟. تلجلجتُ في إجاباتي، ولم أشأ أن اعترف له أن كل شيء تم ارتجالا بدون تخطيط أو متابعة. استفزتني الأسئلة ولعل ذلك لأنها كانت أسئلة في الصميم لم أكن أملك لها جوابا. قام الرجل وودعني بلطف متمنيا لي التوفيق في دراستي. بادرني أحد زملائي الطلبة وأنا أترك المطعم بسؤال: ماذا كنت تتحدث في كل هذا الوقت مع (لي كوان يو) رئيس وزراء سنغافورة؟ . ولا تسأل عن حرجي من جهلي السياسي المطبق. عندما بدأت في كتابة هذه السطور خامرني شك في ملابسات هذه الواقعة وتاريخها، وحتى لا أقع فريسة لذاكرة متداعية، رأيت أن أراسل الكلية مستفسرا وجاءني الرد في أقل من أربع ساعات من مديرة أرشيف الكلية مؤكدا أن (لي كوان يو) زار فعلا الكلية وأقام بها أوائل عام 1969 . بعد أقل من ثلاث سنوات من لقائي معه وجدت نفسي استعيد كلماته محاولاً استيعاب مغزاها وقد أُسنِدت إليّ حينها مهمة تأسيس مركز للبحوث الزراعية ينشأ لأول مرة في ليبيا. كنت أتابع بين الفينة والأخرى أخبار لي كوان يو، وقد لفت انتباهي الإشارة في بعض الكتابات إلى توثق العلاقة بينه وبين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وأن الشيخ كان يستشيره في كثير من أمور الدولة. لم أستغرب ذلك، فكلاهما من ذوي النظرة الثاقبة البعيدة وكلاهما حوّل بلده الصغير إلى تجربة فريدة مدهشة بكل المعايير. حوّل الأول “المستنقع السابق وأرض البعوض ؛ الذي كان اسمه سنغافورة إلى موطن للثراء والسعادة، والثاني حوّل صحراء شاسعة تمور فيها الرياح وتلهو فيها كثبان الرمال إلى “إمارات” زاهرة. ولعل أجمل ما قيل عن (لي كوان يو) بأنه “عاش وتنفس سنغافورة طوال حياته” ويمكن القول بأن الشيخ زايد هو أيضا عاش وتنفس الإمارات طوال حياته. ويشاء حسن الطالع أن أقابل الشيخ زايد وأقضي معه أكثر من ساعتين وذلك أثناء زيارته لليبيا أوائل عام 1972، إذا لم تخني الذاكرة. جاء إلى محطة سيدي المصري الزراعية وكان لي شرف مرافقته وقد أبدى إعجاباً بالغاً بكل ما رأى وكان يستمع إلى شروح المختصين باهتمام واضح يستزيد من الشرح ويكثر من الأسئلة النافذة. في ذلك كانت ليبيا قد قطعت أشواطا في التنمية الزراعية، والإمارات مازالت في أوائل طريق نهضتها، وعندما أشرت للشيخ زايد، ونحن في طريق العودة، إلى أن كل ما رآه هو امتداد لجهود سنوات طوال سابقة، ابتسم ولم يقل شيئا.”.
انتهى الاقتباس المهم، وكان كثيف الأسئلة والرسائل إلى المستقبل، ولكن يؤكد أن التجارب تقول إن وراء كل نهضة أمةٍ فردٌ أو أفراد لهم تصوراتهم لمستقبل الحيز الذي تحملوا مسؤولية بنائه، كيف يختار كفاءاته؟ وكيف ينفتح على العالم الحديث دون عقد؟ والأهم كيف يمنع شر آفة تخسف بالأرض وسكانها وهو الفساد؟ وعطفا على ما بدأت، صحيح أن مطار سنغافورا حملنا ما كان يفعله قائدنا المتهور، لكن بكل مهنية وذوق واحترام، وحين تجاوزنا بوابة المطار إلى جمال الدولة الصغيرة نسينا كل شيء وأيقنا أن الدول لا تبني نفسها إلا حين تبعد محفزات العنف عن أرضها، وحين تتوجس من صوت (البوم بوم) الذي وصفوا به لنا ليبيا قبل 32 عاما، وكان علامة الشهرة الوحيدة لليبيا التي طالما تفاخر بها القذافي قائلا : أنا من جعلت كل العالم يعرف ليبيا.
الجدير بالذكر والتذكير ، في يوم 7 يوليو 2016 تم انتخاب سيدة مسلمة رئيسة لسنغافورا وهي حليمة يعقوب، والدها من الهند، وأمها من ملاوي، وزوجها من اليمن، مع العلم أن نسبة المسلمين لا تتجاوز 14% من تعداد السكان.